تبدأ معاناة اليتيم في غزّة لحظة فقدان والده، الذي يذهب ضحية عدوان أو قصف إسرائيلي أو وفاة نتيجة انتظاره العلاج بالخارج أو أسباب أخرى، ليبدأ بعدها رحلة الحصول على كفالة معيشية عبر الجمعيات الخيرية التي تقوم بدور الوسيط من خلال تمويل خارجي، لكّن هذه العملية لا تسد احتياجاته الكاملة، وهي تشهد شبهة فساد بعد أنّ توصل منهم للكفيل الأصلي ووجدوا أن المبالغ التي ترسل لهم منذ سنوات لا يحصلوا على قيمتها الأصلية كما يقر الكفيل من الخارج.
"حمزة 11 عاماً ومها 12 عاماً"، استشهد والدهما خلال قصف إسرائيلي عام 2006، وانتقلوا للعيش مع جدهم وجدتهم. لكن قبل عام اكتشف الجد صبحي "75 عاماً" انه على مدار 11 عاماً تستقطع الجمعية التي تقدم خدمات الكفالة لأحفاده من ضمن برنامج الكفالات الممول من الخارج مبلغ 200 دولار شهرياً من قيمة أصل الكفالة البالغة 300 دولار.
كشف الجد أمر الاستقطاع بعد أن وصلت الكفيلة الفلسطينية التي تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية لزوج ابنته لمحاولة الاطمئنان على وصول الكفالة بشكل منتظم وذلك لأنها لا تتحدث مع "حمزة ومها" إلا خلال الجمعية وعند تواجدهم في مقرها فقط".
وجاء كشف الكفيلة لأمر الاستقطاع بالسلب على "حمزة ومها"، حيث إن كشفها لأمر الاستقطاع الغير مبرم ضمن الاتفاق دفعها نحو التوقف عن إرسال المبلغ، كما أنّها لم تستطع إرسال مبلغ الكفالة بطريقة أخرى تخوفاً من الإدارة الامريكية التي تشدد على رقابة التحويلات المالية التي تخص عائلات أبناء الشهداء على اعتبارات تصنف "دعم لأسر الإرهابين أو المنظمات الإرهابية" كما نوهت الكفيلة للجد.
لم تكتفي الجمعية عند هذا الحد، فكانت تقوم بتصوير الطفلين خلال الحصول على مبلغ بظرف أبيض والطلب منهم كتابة جمل بخطهم لشكر الكفيلة، إلى جانب تصويرهم وهم في مدارسهم ويلعبون في الحي بهدف إظهار صورة مصطنعة للكفيلة، حيث كانوا يقدموا له وعوداً بزيادة الدعم لأنهم بحاجة لذلك عندما يكبرون، لكنه لم يوفوا وعودهم، فاكتشف أنّ أطفاله كانوا عبارة عن عملية تسويقية إلى جانب كشف الاستقطاع.
يرفض إفصاح اسم العائلة ضمن التحقيق تخوفاً من أخذ ردة فعل سلبية من أحد الجمعيات التي تقدم مساعدات بشكل دوري لأحفاده، ويقول "وصلت الكفيلة لزوج ابنتي عبر مواقع التواصل الاجتماعي لأنه من نفس العائلة، لكن للأسف اكتشفت عملية نصب الجمعية الخيرية الموجودة في شمال قطاع غزة، والتي كانت بدورها تمنحنا المبلغ كل 3 شهور، وللأسف أنا رجل عجوز لا أستطيع التنقل وملاحقة الجمعية لأقدم شكوى ضدها وأدخل في مشاكل وتعود لي الجلطة التي شفيت منها منذ ثلاث أعوام".
حالة "حمزة ومها" ليست هي الوحيدة التي تم اكتشافها في غزة، فتوصل معد التحقيق لسبعة أسر أيتام أقرت بعدم استلامها المبلغ الأصلي الذي يرسله الكفيل بشكل دوري، ووصلت منها لاستقطاع لأكثر من 50%، وبعد أن تجرؤوا في البوح والحديث مع الجمعية باكتشافهم الأمر واستقطاع نسبة من الكفالة الأصلية دون إشعارهم تحول إرسال الكفالة مباشرة لهم.
"أم فادي خلف"، جدة تبلغ من العمر 62 عاماً، تكفلت بتربية أحفادها التوأم مصطفى وأية 10 أعوام، بعد أن استشهد والدهم خلال العدوان الإسرائيلي عام 2008 – 2009 وتزوجت أمهم بعد عام ونصف. وتحصل من إحدى الجمعيات على مبلغ 1600 شيكل كل 6 شهور، لكنها منذ عامين تحصل على 800 شيكل كل 6 شهور إلى جانب اللوازم المدرسية وملابس الأعياد لكل موسم.
اتصل بأم فادي كفيل أحفادها من قطر في يناير/كانون الأول من العام الحالي، بعد أن وصل لها عن طريق أحد الفلسطينيين المقيمين في مدينة الخور القطرية، ليصدم بوصول هذا المبلغ وهو أقل من نصف المبلغ الأصلي الذي يرسله بشكل منتظم على مدار أكثر من 8 سنوات.
أصبح الكفيل القطري يرسل شهرياً للجدة شهرياً عن طريق أحد فروع الجمعيات القطرية بغزة، وتقول "الجمعية السابقة الموجودة في مدينة غزة كانت تحضرني في بعض الأيام لأن الكفيل يود التحدث معي، لكنهم كانوا يخبروني ماذا أقول له، لأنني أتطلع استمرار الدعم لأحفادي، لكن بعدها اكتشفت انه كله استغلال واقتطاع من مال الأيتام وعندما واجهتهم أخبروني أن المبلغ لمصاريف الجمعية وهو الأمر لم يفصحوا فيه بالبداية".
اتضح من خلال التحقيق، أنّ غالبية أسر وكفلاء الأيتام تتخوف من إبلاغ الشرطة عن كشفهم لاستقطاعات الكفالات التي تصلهم تخوفاً من إمكانية انقطاعها نهائياً، وهو ما يظنه الجد صبحي وأيضاً ام فادي، لكن مصطفى بدران 40 عاماً، وهو عم لأيتام ثلاثة، "منى 16 عاماً، وإيمان 9 أعوام، ومحمد 10 أعوام"، لم يصمت عندما اكتشف اقتطاع نسبة 30% من كفالة أبناء شقيقه الثلاثة البالغ 400 دولار شهرياً، ويصلهم 250 دولار فقط.
يقول: "الجمعية تحدثت ان هناك ازمة تمويل خارجي، لكن طلبت ان أتطلع على التفاصيل الورقية، فرفضت، وهو من حقي لأنني المكتفل في تربية أبناء اخي المتوفي منذ 5 أعوام، وحاولت مراراً لم يقدموا لي أي اثبات وحصل خلاف بيني وبينهم، وكثفت جهودي لأنّ وصلت للكفيل من ألمانيا وهو فلسطيني، وأصبح يرسل لامهم المبلغ كاملاً وهي معهم في المنزل تعيش".
رد الجمعيات
تواصلنا مع ثلاث جمعيات للحصول على ردودهم، فكان رد الأولى من شمال قطاع غزة عبر مسؤول العلاقات العامة، أن الجد "مخرفن" ولا يصدق كل كلامه، أما الجمعية الثانية فرد من العلاقات العامة فيها "أن بعض كفلاء الأيتام يطمعون ويريدون التواصل مع الكفيل لمحاولة الحصول على مبالغ إضافية" وكانت الإجابة من طرفيهما على قضية استقطاع المبلغ أنها ملفات الجمعية الخصوصية إلى جانب توجه نسب بسيطة لمصاريف الجمعية وأن الكفالات الخارجية انخفضت في أعوام 2017 و2018.
بينما ردت الجمعية الثالثة عبر مديرة برنامج الكفالات فيها، أن كفالات الايتام في قطاع غزة بشكل عام قلصت من غالبية الدول المانحة ما دفعهم لتقليص القيمة على غالبيتهم بهدف توزيعها على كل الأيتام، ولم تنكر أن الجمعية تقوم بأخذ نسبة من كل كفالة لكنها لم تصرح فيها.
كفلاء الأيتام لا يعرفون إجراء الكفالات عن طريق الجمعيات
وصل معد التحقيق إلى 20 أسرة أخرى من كفلاء الأيتام في غزة، منهم 18 أسرة لا يعلمون ما هي طبيعة إجراءات كفالات الأيتام عن طريق الجمعيات، و15 أسرة لا يفضلون التوجه للشرطة في حال اكتشف وجود اقطاع من نسبة القيمة الأصلية من الكفالة والسبب التخوف من قطع المساعدة عنهم من الجمعية.
بينما توصلت خمسة أسر منهم للكشف عن المبلغ الحقيقي من قيمة الكفالة الأصلية، ووصلوا للكفيل الحقيقي واشتكوا له، لكن منهم كفيلان لم يستطيعان إرسال المبلغ لأسرتان إلا عبر مسافران فلسطينيان قادمان من بلدانهم إلى غزة بسبب الرقابة المالية في بلدانهم.
عرف سائد بقطع 10% لكن "غير قانوني"
مدير عام الشؤون العامة والمنظمات الغير حكومية في وزارة الداخلية بغزّة أيمن عايش، يبيّن أن طبيعة إجراءات كفالات الأيتام تتصنف في ثلاثة ملفات، الأولى تخضع لقاعدة الاتفاق بين الممول والجهة المنفذة والمستفيد "اليتيم"، وتعود نسبة لحسابات الجمعية لكنها بشرط رضى المانح، مع تقديم الكشوفات الدورية، وعليها لا تستطيع وزارة الداخلية محاسبة الجمعية.
والثانية تقوم الجهة المنفذة باقتطاع نسبة من مبلغ الكفالة للمصاريف التشغيلية وبدون علم المانح أو الكفيل، وهي تعتبر مخالفة ونوع من الخداع للمانح على حد وصف عايش، في ظل وجوب علم أو الاتفاق معه لأن الجمعيات بحاجة لنفقات تشغيلية لإدارة الكفالة الدورية والتنظيمية.
يقول عايش: "هناك عرف سائد في الجمعيات الخيرية لكن ليس قانوني، اقتطاع 10 في المئة من قيمة الكفالة وهنا تقبل العملية من بوابة إدارة الكفالات والمصاريف التشغيلية، لكن شريطة الإعلان عن ذلك ووجود اثبات مستندات، وفي حال لم تعلن فهنا تتحمل ما ارتكبته من مخالفة وخروج عن أصول العمل الخيري".
وأطلعه معد التحقيق على بعض ما توصل إليه من قيمة الاقتطاعات الحاصلة مع كفالات الأيتام، ليرد "اقتطاع أكثر من قيمة 10% من قيمة كفالة الأيتام جريمة حتى لو كانت باتفاق، لأنها جريمة تعسفية، والغاية خدمة الناس وليس الوسيلة، والداخلية تلاحق من يقطع بأكثر من النسبة المعروفة".
كما تقوم أجهزة المباحث بتكييف المخالفة الجزائية في حال أدرجت الجمعية القيمة المقطعة ضمن ميزانياتها النفقات والإيرادات، وأن المال لم يقطع لأجل السرقة، وفيها يتم تنبيه الجمعية بإشعار من وازرة الداخلية لتصحيح المسار، لعدم خروج سمعة تضرها أو يقطع الدعم عن اليتيم، ويوضح أنهم اكتشفوا عدد من الجمعيات الخيرية في قطاع غزة أساءت التصرف بدون ذكر الرقم.
جمعيات ضبطت باقتطاع كفالات أيتام
أما السلوك الثاني، فهو استقطاع لأجل سرقة المال، حيث يُنوه عايش إلى أنه يجرى ضبط عدد قليل منها، واكتشفوا عدم وصول المال للمكفولين، ومنها حالة واحدة بداخل جمعية تبينت من خلال التحقيقات عدم وصول مبلغ مالي إلى 50 مكفول من الأيتام، وتم إحالة أوراق الجمعية خلالها إلى النيابة، لتصنيفها "سلوك جرمي انحرافي".
ويضيف: "نحن نفتح أبواب الوزارة للرقابة على هذه المواضيع، وفتح شكاوى لأي مانح أو ممول خارجي في دوائر العلاقات الدولية بوزارة الخارجية أو الداخلية في غزة، ونرد عليهم من خلال إرسال فريق البحث للتحقيق في الأمر".
حادثة استقطاع في 2009
حادثة استقطاع أموال كفالة الأيتام شهدتها وكشفتها مؤسسة الرؤية العالمية في فرع رفح التي كانت تشرف على توزيع كفالات أيتام ضمن مشروع ممول من مؤسسات إغاثية إسلامية دولية، وفي إبريل/نيسان عام 2009 قدمت سيدة تطلب المساعدة من مؤسسة الرؤية، واتضح لهم أنها تستفيد من برنامج الكفالة عبر الجمعية المحلية التي ترسل لها أموال الكفالة، لكنها تحصل على مبلغ شهري بقيمة 100 شيكل فقط.
بعدها قام موظفي المؤسسة بالاتصال بالمكفولين خلال سجلاتهم التي حصلوا عليها من الجمعية المحلية الشريكة، والتأكد من المبالغ التي يحصلوا عليها من الجمعية التي تحصل على مبالغ الكفالات منهم، فتبيّن أن غالبية كفلاء وأسر الأيتام يحصلون على مبلغ 100 شيكل فقط، من أصل مبالغ تتراوح ما بين 150 – 250 دولار.
على إثرها توقفت مؤسسة رؤية من تمويل المؤسسة المحلية وتحويل الأموال من طرفهم واستلامها عن طريق البنوك المحلية بشكل شهري كما يشير المصدر، لكن في سبتمبر/أيلول 2016 توقفت المؤسسة عملها في غزة نتيجة خلافات سياسية خارجية.
جريمة "خيانة أمانة"
بينما يرى الاستشاري القانوني في الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة أمان عبد الله شرشرة، صعوبة في تكييف نوعية الجريمة التي ترتكبها بعض الجمعيات في ظل اختلاف أشكال اقتطاع موال الأيتام، لكن السلوك الشائع في مثل هذه الحالات يكيف على أنه جناية " خيانة أمانة " والتي يعاقب عليها القانون الأساسي الفلسطيني لعام 1996 بالسجن لمدة 7 سنوات.
تعود صعوبة تكييف الجريمة أن مختلسي هذه الأموال في العادة يقومون بتنظيم الكفالات بشكل يمكن القول: إن "له أهداف تضليلية واحتياليه، إذ تقوم هذه المؤسسات بفتح حساب بنكي وتستقطب التبرعات من خارج قطاع غزة، لصندوق مخصص للكفالات، وتفصحون للجهات الرقابية في قطاع غزة أن الصندوق لتوزيع المبالغ المالية الموجودة فيه بالتساوي أو عبر تخصيص مبلغ معين لكل يتيم، وتخصص جزء من هذا المبلغ كمصاريف إدارية لكن المتبرع لا يعرف ذلك ولا يتم إبلاغه بهذا الأمر، ولا يحصلون على إذنه باجتزاء تبرعه أو تخصيص جزء من تبرعه لشخص آخر أو لدفع نفقات إدارية".
بينما يرفض شرشر فكرة وجود عُرف يتيح لهذه الجمعيات التصرف ب 10% من هذه الكفالات كنفقات إدارية، طالما أن المتبرع لا يعرف ذلك، ولم يسمح به، وهذا يفتح بابا للفساد، ويقول: "القاعدة القانونية تقول ألا يمكن تطبيق عرف إداري في ظل وجود نص قانوني صريح، حيث إن قرار وزير الداخلية رقم 61 للعام 2013 المتعلق بالنظام المالي للجمعيات، ينص في الفقرة 5 من المادة 6 أن التبرعات للجمعيات يجب أن تنفق لما خصصت لها حسب الاتفاق مع المتبرع لكن للأسف الذي يتيح للمؤسسات شرعنة تصرفاتهم".
ينظر شرشر وجوب تطوير الأنظمة في وزارة الداخلية بحيث تنص على عدم قبول التبرعات لصناديق الكفالات إلا عبر عقود موثقة يوضح فيها شخص المتبرع، وأسباب تبرعه، وشروط تبرعه، وآلية إنفاق هذا التبرع، وحرص الجهات الرقابية في وزارة الداخلية على فحص مدى معرفة المتبرع واليتيم لظروف الكفالة ومدتها وقيمتها، كون عدم شفافية المؤسسات الخيرية في هذا المجال يخلق بيئة مواتيه للفساد.
20 ألف يتيم في غزة
وحسب آخر إحصاءات وزارة الشؤون الاجتماعية في بداية عام 2017، فإن عدد الأيتام الإجمالي بقطاع غزّة يبلغ أكثر من 20 ألف يتيم بفعل حروب (إسرائيل) أو الوفاة الطبيعية، وأن 34,2% من إجمالي هؤلاء هم ضمن الفئة العمرية من 5-11 عاماً.
وخلفت الحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة ثلاث مرات 3366 يتيماً، تقل أعمارهم عن 18 عاماً، منهم نحو 2053 استشهد آباؤهم في العدوان الأخير في صيف عام 2014.