الكبت الجنسي

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

اعتبر الفيلسوف برتراند راسل أن أسوأ خاصية للمسيحية موقفها من الجنس، واصفاً إياه موقفا مَرَضيا، لدرجة أنه لا يمكن فهمه إلا في إطار فهم الأمراض الاجتماعية السائدة في فترة انحطاط الإمبراطورية الرومانية؛ حيث كان المجتمع يعتبر النساء مصدرا للفتنة والغواية، ومصدرا للشهوات الملوثة. 
وحيث كانت تعاليم الكنيسة تعتبر أن العذرية هي الأفضل، وفقط من يجد هذا مستحيلا يمكنه الزواج! ويضيف راسل، إن الكنيسة فعلت كل ما بوسعها لتضمن أن الشكل الوحيد من الجنس الذي سمحت به، يجب أن يتضمن القليل جدا من المتعة، والكثير من الألم، معتبراً أن فكرة «الخطيئة» التي تقوم عليها المسيحية، تسببت بقدر استثنائي من الأذى، منذ أن وفرت للناس مخرجا لساديتهم التي يعتقدون أنها شرعية، وحتى نبيلة.
وهذا الجهل المصطنع في مسائل الجنس ترك آثارا بالغة الخطورة على صحة الناس العقلية والجسدية، وخلق فيهم موقفا سلبيا من الجنس، باعتباره سلوكا مخلاً بالآداب. وهؤلاء الذين يتلقون تربية متزمتة تحرم المعرفة الجنسية ستنشأ لديهم الأمراض العصبية، بسبب ذهنية التحريم التي تشبعوا بها. وهذا الإحساس بالخطيئة الذي يزرع فيهم بشكل مصطنع، هو أحد أسباب الوحشية والخجل والجهل في حياتهم اللاحقة.
ويرى هشام شرابي في «مقدمات لدراسة المجتمع العربي» أن الحل الصحيح لهذه المشكلة يبدأ في البيت، ثم المدرسة، وينتهي بثقافة المجتمع، وأي خلل في إحدى هذه الحلقات سيحدث شرخا في الشخصية وتشويها لمفهوم الجنس، وعلى سبيل المثال: في مجتمعنا العربي تحيط الأسرة الأمور الجنسية بالسرية والخوف والتكتم الشديد، فينمو الطفل ويبلغ سن المراهقة وهو معزول تماما عن حقيقة ما يجري حوله، وما يدور في نفسه من تحولات وتبدلات، فتنشأ عنده عقدة نفسية، ويصبح موضوع الجنس محاطا بالخجل، بالرغم من أنه شأن من أهم شؤون الحياة، وبهذا تتحول الأسرة إلى مؤسسة لتنظيم الجنس وتقييده، ولتهيئة الأطفال للزواج، وتكوين أسر جديدة منسوخة عن الأسرة الأم.. وإذا لم يُسمح للطفل بأن يعيش حياته الجنسية الطبيعية ستجري في كيانه تبدلات مخيفة، ويغدو نفورا وجلا متحفظا كسير النفس يهاب السلطة، وتنمو لديه اندفاعات جنسية غير طبيعية مثل السادية، ويحل محل الكيان الحر الجريء الطاعة والتأثر الشديدان. وقد أثبت علم النفس أن الكبت الجنسي يقتل روح التمرد في الفرد، ويخضعه لإرادة الأب والسلطة، وهذا الإخضاع يؤدي بدوره إلى عوارض نفسية مختلفة، من أهمها ضعف القدرة على التساؤل الحر والتفكير المستقل، إضافة إلى التشتت العقلي. 
ويضيف «بوعلي ياسين» بأن إخضاع الاندفاعات الجنسية يتطلب الكثير من الطاقة والانتباه وضبط النفس، وبقدر ما تصبح القوى البيولوجية للمراهق عاجزة عن التوجه إلى العالم الخارجي، وإلى إرضاء الدافع الجنسي، فإنها تفقد قدرتها المحركة وجرأتها وإحساسها بالواقع، ويصبح المراهق مكبوتا، وفي مركز هذا الكبت تكبت الحركة، والذكاء، والنشاط، والتفكير.. وهكذا تقف الأسرة البطريركية عائقا أمام الشبيبة في تفتح شخصياتهم، وتكونها بشكل صحي، وترغمهم على عكس إرادتهم في تطوير نفسياتهم وشخصياتهم، مستخدمة في ذلك وسائل ردع وقمع عديدة.
وفي المدرسة، حيث يتواجد أحيانا معلمون ليس في ذهنهم سوى فكرة غامضة عن حاجات الطفل الخاصة في مراحل نموه المختلفة، وبالتالي فإنهم يعاملون الأطفال بشكل كثيرا ما يؤدي إلى كبت نموهم العقلي والعاطفي.
ومن البديهي أن المراهق ما لم يتلقَّ حاجته من المعرفة الجنسية في البيت أو المدرسة، فإنه سيبحث عنها في الشارع، وفي الكتب الرخيصة، أو الأفلام الإباحية، وفي ظل وضع كهذا سيكبر الطالب وهو لا يعرف شيئا عن الجنس الآخر، ويتصوره كشيء مجهول ورهيب، سرعان ما تظهر نتائجه المدمرة عند أول مواجهة بين الجنسين، كأن يحصل الاغتصاب أو الاعتداءات الجنسية، وأحيانا تنشأ علاقة حب وهمية عارضة ما تلبث أن تنهار، وينهار معها الكيان العاطفي لكلا الطرفين، وأحيانا يتم زواج سريع غير مكتمل العناصر، سيجر التعاسة والشقاء للزوجين.
فبسبب الجهل وانعدام الثقافة الجنسية وسيادة المفاهيم الخاطئة عن الرجولة، فإن الرجل قد يجعل من الليلة الأولى للزواج ليلة اغتصاب وعدوان، تترك جروحا نفسية بليغة لأمد طويل، بحيث تصبح الحياة الزوجية شقية وتعيسة.
والكبت الجنسي كنتيجة لهذا الواقع سيؤدي إلى توقف النمو النفسي والعاطفي لدى الإنسان، وبالتالي فإن هذا الكبت سيدفعه إلى الانحراف والشذوذ، وإلى تكون ميول إجرامية وعدوانية واستبدادية. وتوعز نوال السعداوي الصفات الدكتاتورية والتسلطية عند الحكام الظلمة إلى الكبت الجنسي، وتقول: إن      «طاقتهم النفسية والجنسية المكبوتة انحرفت عن طريق الحب والعلاقات الحميمة إلى البطش والسيطرة والعدوان، وهذه الصفات هي دعائم الوصول إلى الحكم، في عالم تسود فيه قيم الحرب والتدمير والنظام الطبقي الاستغلالي».
في حين تؤدي التربية في أجواء الحب والتفاهم إلى النضوج الجنسي، وبالتالي النضوج العاطفي، هذا النضوج يساعد الإنسان على إقامة علاقة مستقرة مع الجنس الآخر، مشبّعة نفسيا وفكريا وروحيا، تشكل فيها العلاقة الجنسية، في إطار الزوج، الوسيلة الأساسية للتعبير عن الحب، أي على عكس ما يؤدي إليه الكبت الجنسي وعدم النضوج العاطفي، من تحول الطاقة الجنسية المكبوتة إلى عدوانية إجرامية وإلى تضخيم الحقد والكره والأنانية، حيث تنمو داخل النفس «المكبوتة» عدوانية أخرى ناتجة عن الاضطهاد الذي يتلقاه الإنسان من محيطه ومن أجهزة الدولة، ويتلقاه العامل المأجور من رؤسائه وفي حياته اليومية، وكذلك معظم فئات المجتمع «المقموعة».
والكبت الجنسي لا يكون فقط لغير المتزوجين، فالمرأة التي لا تُشبع حاجتها من خلال زوجها ستعاني أسوأ أنواع الكبت، وقد توارثت المرأة الشرقية مفهوما سلبيا مفاده أن الرغبة الجنسية من حق الرجل فقط، فهي بذلك وعاء جنسي له يفرغ فيه ملذاته، وهو مفهوم موجود عند الرجل أيضا، جعل منه ذريعة ليمارس الجنس مع زوجته بمنتهى الأنانية.
والجنس في المجتمعات الشرقية عموما عملية غير متكافئة يفتقر غالبا إلى الحب، لذلك قد يصبح الجنس عند المرأة مصدر قلق وتعب نفسي وجسدي، يولّد لديها صراعا نفسيا مريرا، بين رغبتها في إشباع حاجاتها العضوية والعاطفية، وبين إحساسها بالإثم والذنب. وبالنتيجة سيولّد الكبت الجنسي عدوانية وكرها للآخرين، ستقوم بتصريفها في البيت، وفي المحيط العائلي، ضد الأطفال، وضد الآخرين.