هذه داعشكم رُدّتَ اليكم

thumb (1)
حجم الخط

  تخّيل لو أن مجموعة من الناس  المسافرين بحراً  قد رست سفينتهم على شاطئ احدى الجزر النائية بعد أن هامو على وجوههم في البحر أياماً وليالي تائهين  , فلم يكن أمامهم خياراً سوى  الاستقرار في الجزيرة  كثيفة الأشجار والزاخرة بالوحوش حتى يحدث الله أمراً كان مفعولاً, فاهتدى تفكيرهم للبحث عن وحش صغير من الغابة ليربوه بأيديهم وعلى أعينهم حتى اذا كبر استخدموه في حمايتهم من الوحوش الأخرى والقضاء على أعدائهم أو تخويفهم وردعهم , وكان لهم ما أرادوا ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن احياناً , فلقد كبر وتضخم الوحش أكثر مما  توقعوا , وشق عصا الطاعة وتمرد على أصحابه الذين ربوه صغيراً , وهرب منهم كبيراً , وأخذ يهاجمهم بين حين وآخر ليلاً ليأكل كل مرة منهم واحد حتى قضى عليهم جميعاً . 

إن مثل قصة هذا الوحش مع أصحابه كمثل قصة داعش مع أصحابها المسئولين عن وجودها صغيرة ثم انقلبت عليهم عندما كبرت وخرجت عن السيطرة , ولكن الفرق بين القصتين أن أصحابها المسئولين عن وجودها قد قرروا التهامها  قبل أن تلتهمهم . أو كما قال المثل ( أن يتغذوا  بها قبل أن تتعشى بهم ) .  وهي في الحقيقة بضاعتهم التي انتجوها قد رُدّت إليهم , فلم تكن داعش في حقيقة الأمر إلّا مُخرجاً منطقياً لمدخلات فكرية وسياسية واجتماعية تحياها الدول والمجتمعات الناطقة بالعربية , وإفرازاً طبيعياً لوضع مأزوم على مختلف المستويات لتلك الدول والمجتمعات , وتطوراً حتمياً لواقع سيء ومقدمات أسوأ تهيمن على مناحي الحياة  في الدول التي كانت تُسمى سابقاً بالوطن العربي ... فهي صدقاً وحقاً بضاعة رُدّت إلى أصحابها الذين انتجوها  ولكن بعد التعديل وما أُدخل عليها من تحويل .  وأصحاب داعش المسئولون عن وجودها مع غيرها من الحركات التكفيرية المتطرفة الذين كان لهم أثم السبق من قبلها , أو الذينا اتبعوها بغير إحسان كثيرون منهم المسئولون عن وجودها فكرياً من خلال جمودهم الفكري الذي يقّدس التقليد ويحارب التجديد , ويخلط بين الدين والفكر الديني , ولا يفّرق بين النصوص الشرعية   واجتهاد العلماء , ويحصر مفهوم الفرقة الناجية في حزبه – شعب الله المختار – الذي يستحق الحياة وحيداً في الدنيا ويستحق الخلود وحيداً  في الجنة , ويفهم نظرية الحكم في الإسلام بطريقة خاطئة تعتمد على الشكل دون المضمون فيحاول استنساخ صور نمطية مشوّهة من الماضي ليطبقها في الحاضر , دون التركيز على مبادئ  وقيم الحكم في الإسلام التي تعتمد على الشورى والعدل والبيعة ( العقد ) وحق نقد ومعارضة الحاكم وحتى عزله إذا أخل بشروط البيعة والعقد ... ومنهم المسئولون عن وجودها سياسياً من خلال استبدادهم السياسي , فالأنظمة الحاكمة التي تمارس الاستبداد تشكّل أرضية خصبة للتطرف , فالاستبداد  يعني  احتكار السلطة  من قبل فئة محدودة من المجتمع تسيطرعلى السلطة والثروة , فيما الغالبية مهمشّة ومعزولة عن المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحقيقية , وهذا يؤدي بالضرورة إلى انتشار الظلم والفساد في الدولة والمجتمع , فيشكلان بيئة خصبة تدفع بالفئات الأكثر تضرراً وهم الشباب إلى الكفر بالنظام السياسي الذي يحكمهم وفقدان الثقة بأركانه وعدم الإيمان بقيمة , فيبحثوا عن البديل النقيض لهذا النظام وتلك القيم , فتلقاهم تلك الحركات لقمة سائغة ليكونوا جزءاً من مخطط أكبر منهم قد يعرفوا أوله ولكن لا يعرفوا آخره بالتأكيد .... خاصة في ظل استخدام العنف والإرهاب الرسمي الذي يُمارس من أذرع الدولة العسكرية والأمنية لإقصاء المعارضين للنظام عن الفعل والتأثير أو عن الوجود والشهود إذا لزم الأمر .  

ومنهم الذين أمدوا داعش وأخواتها بفائض المال المكدّس في خزائن الدولة أو الأغنياء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً , وأمدوها بفائض الرجال الذين خُدعوا بفتاوى الفتنة التي يطلقها علماء الدين اتباع مدرسة بلعم بن باعوراء , وأمدوها بالسلاح  المخزّن للصراعات الداخلية فقط وليس للصراع مع عدو الأمة المركزي الغاصب لفلسطين , ومنهم من سهّل انتقال المال  والرجال والسلاح إلى البلاد المستهدفة بالتدمير والتفكيك والتقسيم عبر حدوده البرية ثم اكتشف أن الوحش الذي يسمّنه  قد يلتهمه أو يؤذيه فقرر محاربته ... وآخرين خلطوا عملاً سيئاً كالطائفية والمذهبية بآخر أكثر سوءاً كالاستبداد والفساد فأوجد البيئة الحاضنة للتطرف الوجه الآخر للطائفية .  
وخلاصة الأمر أن الجمود الفكري والتعصب المذهبي والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي ... إضافة لدعم المتطرفين بالمال والرجال والسلاح ... دون إغفال البُعد الخارجي المتمثل في الدور التآمري لأعداء الأمة وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني مركز المشروع الغربي في المنطقة الإسلامية الرامي إلى إضعاف وتفرقة العرب والمسلمين ... جميعها عوامل انتجت التطرف فكراً وممارسة . وأن طريق الأمة للخلاص لا يكون إلّا بمشروع نهضة تقوم على أسس الوحدة والتحرر والتنمية , وعلى قيم الحرية والعدل والمساواة , وعلى مبادئ الاعتدال والوسطية والديمقراطية .