القيم الوطنية والقيم الفاسدة

8fjlI.PNG
حجم الخط

 

يتميز كل شعب من الشعوب بتقديس قيم ورموز من تاريخه وحاضره تساعده على استلهام قيم العمل والصمود والتضحية من اجل المستقبل الذي يتطلع اليه.

تبرز هذه الظاهرة خاصة لدي الشعوب التي تناضل من أجل تحررها من الاستعمار، فتتشكل لديها قيم أخرى تضاف إلى القيم التي تشترك فيها مع معظم الشعوب، ان لم يكن جميعها. الأرض والتمسك بها والثبات عليها وحبها والتغني بها، مثال على احد أهم هذه القيم المشتركة بين مختلف شعوب العالم.

تمثل قيم النضال والتحرر والرموز التي تمثلها، البندقية فدائي مناضل مقاتل اسير محرر شهيد جريح ..... وغيرها من الرموز، قيمة عظيمة ومقدسة في مخيلة ووعي أبناء الشعوب المناضلة والمحتلة أراضيها.

الشعب الفلسطيني هو احد هذه الشعوب التي تناضل منذ أوائل القرن العشرين ضد طلائع زحف الاستيطان الصهيوني اليهودي على فلسطين. في خضم هذه المسيرة النضالية الطويلة، كانت ومازالت، الرموز الوطنية لها دلالات عميقة على تمسك هذا الشعب بقضيته وارضه ووطنه، وعلى الشكل النضالي الذي يتبناه ويمارسه، والمرحلة النضالية التي يمر بها هذا الشعب.

تستمد الرموز عناصر قوتها، في الواقع الفلسطيني، من قوة الروح والحق والحقوق والعدالة. ان وظيفة الرموز هي الاستنهاض والنهوض للوصول إلى الخلاص الوطني، وتحقيق الأهداف الوطنية، وهي تسعى نحو الارتقاء بمسار الإنسان، وإنضاج الوعي والإلمام بحقائق التاريخ، ووعي المخاطر الصهيونية وتطبيقاتها وممارساتها على الأرض.

في مرحلة الثورة تكون القيم الوطنية بارزة وفي المقدمة، ولا تجد أي صعوبة في رؤيتها وتعريفها، لانها هي القيم الاعم والأشمل، التي يتميز بها المجتمع وأبنائه بصفة عامة، والمناضلين بصفة خاصة، رغم ان هذه القيم قد تتعرض احيانا إلى التشويه والاستخدام، حتى في زمن الثورة، من بعض الفئات والافراد، لأهداف بعيدة عن الأهداف الوطنية للشعب.

تتراكم هذه الأخطاء والمظاهر التي تشوه وجه الثورة النقي رويدا رويدا، وتطفو على السطح، وتصبح تشكل ظاهرة عامة الى حد بعيد في مرحلة التراجع والهزيمة الوطنية. عندئذ يظهر فجأة أدعياء الثورة من كل حدب وصوب، يستخدمون كل مقدس، ينافسون كل الثوار، بل يدفعونهم بعيدا إلى الوراء، الى الزوايا المعتمة.

في زمن الفساد، يستسلم كثير من الثوار الحقيقين لهذا الواقع الجديد البائس وقيمه التافهة، فيؤثرون السلامة والانزواء بعيدا عن المعارك الوهمية والردح والمناكفة، ويفضل بعضهم الهروب بعيدا لينشغل في دنياه وحياته الجديدة، لعله يعوض شيئا مما فقده خلال سنوات النضال والعطاء. ومن تبقى من المناضلين القابضين على جمر القيم اللاسعة هم الأقلية، مكسورة الجناح، تحاول أن تتصدى لزمن الشقلبة وقيم النهب والفساد التي تسود. تصبح لغة هؤلاء الاقلية وخطابها مستغرب وغير مفهوم، من كثير من الثوار الجدد، الذين يجيدون الخطابة والكلمات الرنانة، ولديهم فائض من السفالة وقلة الحيا، تساعدهم على استخدام كل الرموز والقيم التي ضحى من أجلها الشعب.

فالمقاومة والدين والشهيد والجريح والأسير والمحرر، تصبح مهن للارتزاق، ووسائل لفتح الأبواب المغلقة، وطرق جديدة للشحدة المبتذلة، وشكل من أشكال المبهاة والادعاءات الكاذبة، ومحاولة لكتابة تاريخ مزور، يكون أحد اهم وسائل الصعود على سلم الواقع الجديد، وصولا إلى مراكز القرار والقيادة، الذي أصبح شاغرا لاسباب كثيرة، واحدة من هذه الاسباب تدخل الاعداء بمختلف الطرق والوسائل من أجل خلق هذه الشواغر، والفراغ القيادي.

يصبح كل هذا الاستخدام للقيم والرموز مبررا ومستساغا لهؤلاء الطارئين الجدد على الساحة، بهدف السرقة والنهب والتغطية على الفساد، والاثراء الفاحش غير المبرر، وتكوين شلل ومجموعات من الارزقية والمنتفعين والمهللين، بمختلف درجاتهم، ليكونوا سورا يحمي ظهورهم ويتصدى لمنتقديهم، بل يكيل لهم الكلمات واللكمات والوعيد والتهديد، والتهمة جاهزة والخطاب محفوظ والكلمات مبتذلة ومكررة، كلمات كالطلقات تخلق وابل وستار كثيف تحت دخان الجمل الثورجية والدينية، المكررة والتافهة.

هكذا تتحول القيم والرموز من اداة ووسيلة لاستنهاض المجتمع، وبث روح التضحية والنضال والعمل بين أبنائه، إلى وسيلة لتمرير الفساد والتغطية على الفاسدين.

انهم بهذه الأفعال لا يسيؤون لهذه الرموز التي يستخدمونها فقط، بل يسيؤون الى المجتمع الذي أنجب وانتج ورعى هذه الرموز، والذي هو صاحب الفضل الأول والأخير في ذلك، وهو ايضا صاحب الولاية المطلقة لهذه الرموز، فالشهيد والأسير والجريح ملك لشعبه ووطنه لا لاهله وربعه وعشيرته، خاصة اذا حاول بعض هؤلاء الأهل والعشيرة أن يستخدم دمهم ومعاناتهم والامهم كسلم للوصول. ان هذه الرموز ليست ملكا حتى لأصحابها الا في إطار المحافظة على القيم التي أنتجتها، والقضية التي ضحت من أجلها.

ان هذا هو زمن الشقلبة والعفن والخمج، حيث تفوح روائح الكذب من كل فج وميل، وتتراجع قيم الوطن والعطاء والصدق إلى أقصى نقطة في مؤخرة الزمان والمكان.

في هذا الزمن، حيث يسود الخمج والعفن، ويصل الوضع إلى هذا المستوى من العبث والاستخدام، وتنبعث الروائح النتنة، على حاملي المسك والعطور والبخور أن يتكاتفوا ويتركوا نرجسيتهم قليلا، ويكفوا عن وسطيتهم، فالأمر جِدُ خطير....على الوطنيين التصدي لمحاولات استخدام الرموز في إفساد القيم، بقوة ودون خوف أو وجل، ومن غير تشتييت للنقد في مختلف الاتجاهات، حتى يرضى عنا كل الأدعياء والاتقياء؟!