تاريخنا، بعد مائة عام

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

"بعد العام 2011، تعرضت سورية لهجمة إرهابية أصولية، تورط فيها مئات الآلاف من الإرهابيين الذين أتوا من عشرات الدول، بتمويل سخي من دول الخليج، وتسهيلات لوجستية من تركيا، وتواطؤ أميركي.. إلا أن القائد المظفر بشار الأسد تصدى لهم ببطولة، وحافظ على الدولة السورية، لتظل قلعة العروبة، وحصن المقاومة، وقد تمكن من ذلك بمساعدة القوى الصديقة للشعب السوري، روسيا وإيران وحزب الله.."
"في العام 2011، قام الشعب السوري بثورة سلمية، ضد الاستبداد والظلم والفساد، تحت شعار بدنا حرية، إلا أن النظام الاستبدادي قمع الثورة بكل تعسف؛ فقصف الأحياء المدنية بالبراميل المتفجرة، واعتقل مئات الآلاف من الشبان، وقد مات الآلاف منهم تحت التعذيب، كما شرد نظام الأسد المجرم ملايين السوريين، ودمر مقدرات الدولة والشعب، وجعل الأرض السورية مستباحة من إيران المجوسية، وروسيا الكافرة، وحزب الله الطائفي..".
"في العام 2012، وفي انتخابات حرة ونزيهة انتخب المصريون لأول مرة رئيسا مدنيا، وهو الرئيس المظفر محمد مرسي، وفي عهده القصير استقرت البلاد، وبدأت تزدهر اقتصاديا وعمرانيا، وقد نجح مرسي بتوفير كافة الخدمات للشعب، وأهمها الأمن والكهرباء، حيث خفّض الأسعار، وقلّص معدلات البطالة، وفرض السلم الأهلي، وتصدى بشجاعة غير عادية للإرهاب الإسرائيلي، وسن دستورا مدنيا للبلاد، وعاش الناس حينها بأجواء ديمقراطية لم يعهدوها من قبل، إلا أن العسكر بأوامر من أميركا، وتحالف مع إسرائيل، انقضوا على الحكم، ونفذوا انقلابا دمويا على الرئيس الشرعي..".
"في العام 2013، كان الشعب المصري قد تعب من الغلاء والبطالة وانهيار الأمن، وتراجع الاقتصاد، وتفشي الفوضى، وانقطاع الكهرباء، وغياب الخدمات الأساسية، وقد عبرت النخب المثقفة عن استيائها من حكم المرشد، وعن رفضها سيطرة قيادة الإخوان على الدولة، وخشيتها من مشروع الأخونة، ومن تحالف نظام مرسي مع الإدارة الأميركية لتأسيس شرق أوسط جديد، بقيادة السلفية الإخوانية، مع المحور القطري التركي.. فنظم الشعب المصري حملة تمرد، وقّع عليها عشرات الملايين، ثم قام بثورة جماهيرية شاركت بها أعداد فاقت من شارك بثورة 25 يناير، أدت إلى استدعاء الجيش للتدخل لصالح الشعب، وإنهاء حكم مرسي، بقيادة عبد الفتاح السيسي..".
"في العام 2006، انتخب الشعب الفلسطيني إسماعيل هنية رئيسا للحكومة، فأراد تصعيد المقاومة، ومكافحة الفساد، وتوفير بنية تحتية متطورة للدولة الفلسطينية، وتثبيت صمود الفلسطينيين فوق أرضهم، وإرساء دعائم الحق والعدل والحكم الإلهي، عبر حكومة ربانية رشيدة.. إلا أن الحقد الصهيوني، وتآمر السلطة، وأذناب فتح، حال دون ذلك، إذ بدؤوا يكيدون لحماس، عبر فرض حصار شامل وخانق، فاضطرت حركة المقاومة الإسلامية للحسم العسكري، وإقامة حكومة مقاومة في غزة، لتكون مقدمة لتحرير فلسطين، ومع كل هذه المؤامرات إلا أن القائد المظفر حقق ثلاثة انتصارات ربانية مجلجلة على إسرائيل..".
"في العام 2007، نفذت حماس انقلابا دمويا على السلطة، واستفردت بحكم القطاع، وفرضت نظاما قمعيا على الشعب، الذي اتخذت منه رهينة، وعيشته في ظروف قاسية ومهينة، وورطته بثلاث حروب مدمرة، أتت على مقدراته ومنجزاته، وبذلك صنعت الانقسام، وأضعفت الموقف الفلسطيني، ما أدى إلى تراجع مكانة القضية الفلسطينية..".
يمكن أن نضع أي اسم لأي زعيم عربي، ونطبق عليه نفس النموذج.. لكننا سنكتفي بهذه الأمثلة..
مثلما قرأنا تاريخ أسلافنا، سيأتي زمن، وسيقرأ أحفادُنا تاريخَنا المعاصر.. ومن حسن حظهم، أن في زمانهم (كما هو في زمننا الحالي) آليات توثيق دقيقة، لمن يبحث عن الحقيقة، ومن يرغب بالاطلاع على تاريخنا الحقيقي.. فاليوم، لكل شيء، ولكل حدث، ولكل تصريح لأي شخص توثيق مدعم بالصوت والصورة والبراهين الدامغة.. ومع ذلك، كثير من الأحيان تضيع الحقيقة، وتلتبس على الباحثين، وتختلط الأمور ببعضها وسط ركام من الدعايات الديماغوجية وحملات التضليل، وأساليب الكذب والتزوير التي تتيحها التكنولوجيا.. 
ولدينا مثال قريب جداً.. مقتل الخاشقجي.. فمع مئات المقالات والأخبار والتحليلات والتسجيلات حول مقتله؛ إلا أن الصورة ظلت ملتبسة، حتى لمن يعتقد أنه فهم الصورة كاملة وبوضوح، ستجد من يقول العكس، هذا حدث ويحدث الآن، فكيف ستكون الصورة بعد مائة أو مائتي سنة؟ أي خبر وأي صورة هي التي ستفرض نفسها، لتكون الرواية المعتمدة؟ فما بالكم بالقضايا التي لم تحظَ بتغطية إعلامية كافية.. وما بالكم بتاريخنا القديم، حيث الروايات المتضاربة، والبراهين المادية والأركيولوجية شحيحة للغاية؟
في الواقع، كتابة التاريخ، وبالرغم من كل المحددات والمعايير الصارمة التي تلزمها، تظل دوما صنعة المنتصر.. هو الذي يفرض روايته، بينما الروايات الأخرى (حتى لو كانت وجيهة ومنطقية) تظل على الهامش، موضع تشكيك، وتكذيب.. وتبقى الرواية الرسمية هي التي يتداولها عموم الناس، ويتعاملون معها بوصفها الحقيقة الوحيدة.. 
لو طبقنا هذه الأمثلة، بنفس المنطق على تاريخنا الطويل، سنكون أمام نفس اللبس والغموض.. هنالك رواية رسمية معتمدة ومقدسة، يرفض عموم الناس التشكيك بها، أو حتى إعادة طرحها.. مقابل روايات أخرى ينبشها بعض الباحثين من حين لآخر، سواء بدعاوى أيديولوجية وسياسية، أو لأغراض أكاديمية وبحثية، تسعى وراء الحقيقة المجردة.
فلو أسقطنا نفس المنهج على بعض شخصياتنا التاريخية.. لن نقرأ سوى بطولاتهم، وفتوحاتهم، ومآثرهم التي لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من أمامها.. لن نعرف شيئا عن حيواتهم الخاصة، عن نزواتهم، ونزعاتهم البشرية، ونقاط ضعفهم، وأخطائهم.. ما يعني أنها قراءة مبتسرة ومجتزأة وانتقائية للتاريخ، مرت من تحت يدي رقابة صارمة، شذبتها وهذبتها، حتى وصلت إلينا بهذه الصورة المثالية.. 
هنالك مقولة مفادها "إذا أردت أن تهزم أمة، وتدمرها من الداخل، شكّك في رموزها وشخصياتها التاريخية".. وأظن أنه مثل سلبي، كعشرات الأمثلة السلبية التي تزخر بها ثقافتنا الشعبية.. وهو مثل يصلح للشعوب البدائية التي تقدس قادتها وشخصياتها التاريخية، وتصنع منهم آلهة، وتضعهم في مكانة فوق البشر.. الشعوب الغارقة في الماضي، التي ما زال يحكمها الأموات. 
إذا أردنا للتاريخ أن يكون منصة انطلاق نحو المستقبل، فعلينا أن نفهمه بصورة علمية مجردة، دون تقديس.