ماذا يحدث في ساحات السلطة القضائية الفلسطينية؟!

00.PNG
حجم الخط

 

شهدت الساحة القضائية الفلسطينية في الفترة الأخيرة، تطورات وطعونات وتشكيلات وقرارات وملاحقات وتعديلات أثارت جدلا كبيرا بين الجمهور الفلسطيني القانوني وغير القانوني حول استقرار قيم العدالة وفصل المنازعات وسيادة القانون والفصل بين السلطات.

فمرة يطعن في قرار تعيين رئيس المحكمة العليا بعد ردح من الزمن غير قصير من تعيينه. وبالفعل تستجيب محكمة العدل العليا للطعن وتقرر إلغاء قرار الرئيس بالتعيين، بسبب عيب شكلي أصاب القرار، وهو عدم وجود تنسيب من المجلس القضائي بالتعيين، في مخالفة صريحة للمادة 18 من قانون السلطة القضائية لسنة 2002، بينما كانت تعيينات أخرى رئاسية سابقة، خلت من ذلك التنسيب ولم يطعن بها، وبرغم ذلك بقيت سليمة من الناحية القانونية رغم تشابه الأوضاع.

وتتكرر الرواية مرة أخرى، يطعن بقرار رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية بتعيين رئيس ديوان الفتوى والتشريع، ومرة أخرى تستجيب محكمة العدل العليا لطلبات الطاعنة. وتقرر إلغاء القرار الإداري بالتعيين. مع ملاحظة أن قرارا الإلغاء القضائي للتعيين تم بعد زمن غير قصير من شغل المنصب.

وفي السياق ذاته يشكّل المجلس القضائي الأعلى بشكل لا يستجيب للفقرة الثانية من المادة 37 لقانون السلطة القضائية ، ويستمر في عمله تحت غطاء الشرعية، بل يُفتح تحقيق لقاض مرموق من أقدم قضاة المحكمة العليا وأوسعهم علما.

أما بعض وزراء السلطة التنفيذية العتيدة، فيرفضون ويمتنعون عن تنفيذ قرارات المحاكم وبخاصة العليا تحت حجج وذرائع مختلفة، ويستمرون في وظائفهم ولا يقالون ولا يتهمون بأي تهمة جزائية في مخالفة صريحة للقانون الأساس ( م 106) وقانون السلطة القضائية ( م 82).

وفي وجه آخر مما كان يجري في ساحات السلطة القضائية الفلسطينية، كان أحد رؤساء اللجنة القانونية في المجلس التشريعي يلاحق وزارة العدل ووزيرها عب رمحاولته تقليص صلاحياتها بحجة أنها سلطة تنفيذية وهو سلطة تشريعية. ولسخف الأقدار حينما عُّين ذاته وزيرا للعدل حاول استعادة الصلاحيات التي كان قد قلصها من وزير العدل السابق!

ومن أغرب ما كان يدور في الخفاء حول قصص تعيين أي رئيس للمحكمة العليا والتي تصل حد عدم تصديقها من غرابتها، بأن التعيين يتم في اللحظة التي يقبل فيها الرئيس الجديد المعين بالتوقيع على كتاب استقالته غير المؤرخ في المستقبل البعيد حتى يكون رهينة هذا التوقيع.

وآخر ما حرر في هذا السياق، إيقاف النائب العام عن عمله مؤقتا، عملا بتقديم طعن بتعيينه الذي مضى عليه أكثر من سنتين بشكل مخالف للقانون. وأيا كانت نتيجة الطعن فهذا يضع النيابة العامة وقراراتها المتعلقة بحرية الإنسان محل اهتزاز وشك كبيرين.

هذا غيض من فيض مما يجري في ساحات السلطة القضائية منذ زمن، ويتساءل المرء والمراقب عن كل هذه السلسلة من الأحداث القضائية التي تثير كثيرا من الإستغراب والإستهجان، وبخاصة أن القانون الأساس الفلسطيني، وقانون السلطة القضائية الفلسطيني، تضمنا نصوصا قاطعة لحماية السلطة القضائية الفلسطينية من أي تدخل في شئونها أو خرق لصلاحياتها.

فالسلطة القضائية مستقلة، والقضاة مستقلون، ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شئون العدالة.

يبدو أن هذا الإحترام والإستقلال موجود في النصوص القانونية الجامدة النظرية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وهي إمكانيات قانونية جوفاء تبتعد عن التطبيق، أما من الناحية العملية فالقضاء الفلسطيني في محنة حقيقية. ويشهد استقطابا حادا بين جنباته يصل حد التحزب والشخصنة. بل وصلت الأمور حد القطيعة والمخاصمة القضائية بين القضاة أنفسهم. وانتقلت هذه التناحرات لكليات الحقوق الفلسطينية ولبعض أساتذة كليات الحقوق، ومراكز العمل والمنظمات المجتمع المدني القانونية.

فإذا كان العدل هو أساس الملك، وإذا فقد العدل توارى الحق ووريت الحقيقة، وتبارى الظالمون قسوة وفسادا في إهدار نصوص القانون الأساس التي تصون وتحمي السلطة القضائية. وكتب الفقهاء عن أهمية الدولة القانونية وسيادة القانون ومبدأ الفصل بين السلطات، وسنت التشريعات وكتبت الدراسات لرفعة الدولة القانونية، إلا أن السلطة القضائية ما زالت تعبر من محنة إلى أخرى، وتتراجع من محطة لأخرى. وما زال العدل بعيدا، فأحكامها عصية على التنفيذ وبخاصة إذا طالت قرارات أصحاب المعالي أو اعتبارات الأمن السخيفة. ومن الذكريات المؤلمة حكم محكمة مؤلفة من قضاة أكفياء، نسبت إلى نفسها صفة العلوية، فاجتمعت على عجل حيث قررت عدم دستورية قانون السلطة القضائية لعام 2005 لسبب شخصي بحت.

منذ قيام السلطة الفلسطينية وإلى يومنا هذا رغم ميراثها الإحتلالي من الأوامر العسكرية غير المشروعة، لم تستحوذ السلطة القضائية الفلسطينية على عقل المسئول الفلسطيني السياسي ولا على الإهتمام الأوسع والمركزي له، ولم تكن محورا من محاوره، بل شكلت واجهة زخرفية لعدالة وهمية منتظرة. فجميع السياسيين الفلسطينيين للأسف الشديد، لم يعطوا جهدا معقولا، ولا وقتا كافيا، ولا موازنة مرضية، لأن يتبوأ القضاء مركزه الطبيعي في الدولة الحديثة، كأساس من أسسها الثلاثة بالإضافة للتشريع والتنفيذ، وكرافع للتقدم والرقي والعدالة.

وكانت المشكلة الكبرى وما زالت متمثلة في غياب إرادة سياسية حازمة وواضحة وقاطعة، لرفعة القضاء وإبعاده عن مراكز القوى والصراع، بل كان الإستقطاب والإستزلام واضحا بينا، وكأنه ذاته هو البديل. وكان الوبال في تلك التنسيبات غير القانونية المرفوعة من بعض المستشارين القانونيين إلى الرؤساء التنفيذيين على اختلاف درجاتهم ، ولذا فسخت تنسيباتهم. وللأسف كان في القديم قرب الحاكم شعراء للبلاط فإذا به اليوم يغدو للبلاط مفتين.

وقد كان الصراع أزليا بين الأمن والحق، فجاء القانون ليحل هذه النزاعات ويلجمها، وبخاصة إذا كانت بين الفرد الضعيف وبين الدولة الوحش. وكانت عبر العصور السلطة التنفيذية التهديد الأكبر على القانون، فحاولت التدخل في شأن القضاء المستقل النزيه العادل.من هنا كان تدخل الوزراء والمحافظين واجهزة الأمن في القضاء لاعتبارات مختلفة . وكان الجو متاحا بحكم أن كثيرا من الأمور كانت متداخلة. وكان التمويل الغربي لأنشطة القضاء الطري وندواته وورشات عمله وسفرياته مفسدا. وللحقيقة لا يعفى بعض رجال القضاء أنفسهم من دورهم في التناحرفي هذه المحنة الشديدة.

لا يحل هذه الأزمة الخانقة التي تمر بها السلطة القضائية الفلسطينية سوى إرادة سياسية حازمة من قبل الرئاسة الفلسطينية. لذا يجب ابتداء، عدم ربط الإصلاح القضائي بمؤثرات غربية تتعلق بالمانحين ورؤيتهم ومنحهم، وعدم ربط الإصلاح القضائي بقضايا سياسية سواء على المدى القصير أو البعيد، والبعد عن الشخصنة والإلتزام بالشفافية والمهنية والأمانة، ويجب ربطه بامتناع الأجهزة الأمنية على اختلاف مسمياتها من التدخل بالشأن القضائي سواء شكل مباشر أو غير مباشر، ووقف التعيينات المشوبة بعدم النزاهة.

صحيح ان القوانين تعالج القضايا بشكل عام ومجرد، وصحيح أيضا ان نقصا ساد القوانين المختصة بالشأن القضائي وأنها تحتاج إلى تعديل محدد، وصحيح ان السلطة الفلسطينية نشأتها حديثة، وصحيح أن موازنتها محدودة وأبنيتها غير مناسبة وبنيتها التحتية ناقصة، وصحيح أن بعض أعضاء السلطة القضائية الفلسطينية متناحرين بل متصارعين، ولا تملك السلطة أداة تنسيق فعالة بين أجسادها المختلفة كالقضاء النظامي ووزارة العدل والنيابة العامة والقضاء العسكري ومكتب المستشار القانوني للرئيس والمحكمة الدستورية ونقابة المحامين، لكن هذه العوامل تجعل الإصلاح القضائي أمرا حيويا وجوهريا ولازما، ولكن على غير طريقة المحكمة الدستورية وكيفية إنشائها.

رغم أهوال الحرب العالمية الثانية ومآسيها، ورغم ضراوة القصف الألماني للجزيرة البريطانية، أقامت مدرسة بريطانية ريفية دعوى على وزارة الدفاع البريطانية طلبت من خلالها إلغاء مطار بريطاني حربي مجاور ونقله لمكان آخر، مبررة ذلك بتعريض الأطفال لخطر حقيقي أثناء دراستهم من القصف الألماني ولإزعاجه المستمر وتعطيله للدراسة. وما لبثت المدرسة أن استصدرت حكما قضائيا بنقل المطار العسكري، لكن العسكر رفضوا تنفيذ القرار القضائي. فتظلمت المدرسة لونستون تشرشل باعتباره رئيس الوزراء البريطاني، فما كان منه إلا أن أمر بنقل المطار تنفيذا لقرار المحكمة معلقا بقوله " لأن تخسر بريطانيا الحرب، خير من أن يقال أن تشرشل أوقف تنفيذ حكم قضائي ".

رغم سخطي على النظام الإستعماري البريطاني، إلا أنني في هذا الموقف لا أملك إلا أن أرفع القبعة تقديرا واحتراما لموقفه من السلطة القضائية البريطانية. القضاء المستقل النزيه رافع اساسي لحقوق الإنسان وسيادة القانون والديموقراطية وزاجر ورادع لانتهاكات حقوق الأفراد وحرياتهم وبدونه نحن على شفا كارثة !!!