الكاهن الذي صلىَّ للقدس والأقصى

أحمد يوسف.jpg
حجم الخط

د.أحمد يوسف

تمر اليوم ذكرى ميلاد الأب منويل مسلَّم في عامه الثاني والثمانين، ولكنَّ الحال الذي هو عليه من النشاط والحيوية والهمِّة العالية ينطبق عليه قول القائل: "في الثمانينَ يمضي عمري مسرعاً، والروحُ ثابتة على العشرين".

الأب منويل مسلَّم هو شخصية مسيحية فلسطينية متميزة في مواقفها الدينية والوطنية، كما هي فريدة في فهمها لطبيعة المهمة الإنسانية التي تمثلها، والرسالة التي تحملها.

في الحقيقة، هناك شخصيات أخرى فلسطينية لها رمزيتها ومكانتها، وهي معروفة بانتسابها إلى أصحاب الديانة المسيحية، وقد سطعت أسماؤها في مجال الفكر والسياسة والفن والأدب والمقاومة، وكان لهم من الهيبة والمقام منزلة لا تخطئها العين في أوساط الحركة الوطنية، وقد شغلوا مواقع متقدمة داخل الوطن وخارجه، نذكر منهم: الرفيق جورج حبش، والبروفيسور إدوارد سعيد، والدكتور عزمي بشارة وآخرين.

الأب منويل مسلَّم هذا الرجل الثمانيني في عمره، والمناضل الشاب في مواقفه وصدقه وشجاعته وجرأته في قول كلمة الحق، دونما خشية من أصحاب السلطة والنفوذ، والذي لم تلن له قناة أمام سطوة الاحتلال والمستوطنين اليهود، فمهما تحدثنا عن شخصيته فلن نفيه حقه، حيث تميَّز في انتمائه كرجل دين مسيحي، وعبَّر بقوة خطابه وبلاغته عن حسٍّ وطني راقٍ، تتقدم فيها الهوية الفلسطينية فوق أي اعتبار آخر. وفي السياق الديني، تماهت مفرداته اللغوية بين الإسلام والمسيحية، وتداخلت مكانة المقدسات والآثار بشكلٍ متساوٍ؛ فالأقصى ككنيسة القيامة، ونداءات الحشد والتعبئة للدفاع عنهما تعكس لدى الرجل روحاً وإيماناً مشبَّعاً بحضارة الأرض المباركة للعالمين.

فإذا تعرض المسجد الأقصى لاقتحام المستوطنين الصهاينة كانت صرخته المدوية للفلسطينيين بأن يهبوا للدفاع عن مقدساتهم، وكذلك الحال مع كنيسة القيامة، حيث إن تراثنا الحضاري نحن جميعاً مسؤولون عنه؛ لا فرق بين مسلمٍ ومسيحي، فحياض الوطن والذود عنها هي مهمة "الكل الفلسطيني"، وفي هذا يستوي أتباع النبي محمدٍ والسيد المسيح عليهما السلام.

فعندما تعرضت ساحات المسجد الأقصى للاقتحام من قبل المستوطنين الصهاينة، جاءت صرخته المدوية: "لأن القدس لها بُعد قومي، ولأن الأقصى هو بِقُدُسيته الرابطَ الروحي والإنساني لتلك القومية العربية؛ ولأن أي حجر يتزلزل من الأقصى هو حجر يتزلزل من كنيسة القيامة؛ ولأني عربي فلسطيني مسيحي، اصرخ فيكم يا عرب ويا مسلمون: لا تسمحوا لأبواب الأقصى أن تدوسها أقدام الغزاة، ولا تسمحوا لمناشير الشرطة أن تُقطِّع أوصال قوميتكم العربية، ولا تسمحوا أن يكون الأقصى نفسُه هو شهيد أيديكم وتقاعسَ همَّكم، ولا تسمحوا ان يَفْتح عدوُكم (باب الرحمة) ليجتاح باب الأقصى والصخرة ويدنس ويذل مجدنا الروحي... الأقصى لنا، كلُّ الأقصى لنا.. إن من ليس قلبه مغروساً في الأقصى فلا وجود له في أمتنا العربية. إن من لا أقصى شريفاً كريماً عزيزاً له فلا عروبة ولا إسلام له".

إن هذه اللغة الوطنية والإنسانية الراقية تجعل البعض يتساءل: من هو هذا "الأب منويل" الذي يتعانق في خطابه الهلال مع الصليب؟ وما علاقته بالأقصى والمقدسات الإسلامية؟ وهل هو في جوهره مسلم أم مسيحي؟!!

الأب منويل: مشكاة شعب وأيقونة وطن

ذات يوم، كنت في زيارة صديق لي، وأخذني الحماس وأنا أروي له عن إعجابي وتعلقي الكبير بشخصية الأب منويل مسلَّم، وما يمثله من قيم إنسانية ومن تراث إسلامي حضاري. فتبسم وقال لي: يعني يا دكتور أحمد إحنا خلَّصنا الشخصيات الإسلامية وداخلين على المسيحيين!! قلت له: هل تعرف الرجل، وهل سمعت تصريحاته الداعمة للمقاومة، والمدافعة عن القدس والأقصى، وهل رأيت مواقفه ونداءاته الوطنية لأهل طائفته بفتح الكنائس لرفع الآذان منها، وإيواء من تهدمت منازلهم خلال الحرب على قطاع غزة؟ فقال: إن الأب منويل بهذه المواقف شكله نصف مسيحي ونصف مسلم!! فالرجل يبدو أنه شخصية مختلفة كثيراً عن كل من عرفنا من المسيحيين.. في الحقيقة، الرجل جريء وشجاع ولا يخشى في الله لومة لائم، ومفردات خطابه الديني أو السياسي تنسجم بشكل كبير مع أدبياتنا الفكرية نحن المسلمين. فقلت له: إنها لغة الوطن والإيمان.

بعد أيامٍ، نقلت هذا الحوار إلى الأب منويل، وسألته بابتسامة ممازحاً: هل أنت كما قال صديقي: نصفٌ من هنا، ونصفٌ من هناك؟ وأضفت وأنا أسمع ضحكته على الهاتف: سبحان الله يا أبونا!! حتى اسمك (وللمرء من اسمه نصيب) نصفه الأول؛ أي منويل، هو مسيحي، والنصف الآخر مسلَّم وهو مسلم!! فكيف هذا؟

أجاب والابتسامة لا تغادر حروف كلماته، مستشهداً بعبارة لجبران خليل جبران: خُذوها يا مسلمون كلمةً من مسيحي أسْكَنَ "يسوع" في شطر من حشاشته، و"محمداً" في الشطر الآخر!.. إن لم يقم فيكم من ينصر الإسلام على عدوه الداخلي، فلا ينقضي هذا الجيل إلا والشرق في قبضة ذوي الوجوه البائخة والعيون الزرقاء.

وأضاف ببلاغته المعهودة: يا صديقي.. نصفي العربي يعرف ويحب "محمداً"، ونصفي الفلسطيني يعرف ويحب "يسوع".. ولأني كذلك، أحب كل أرضي وكل قدسي وكل مقدساتي وكل شعبي.

وأنا أضع اللمسات الأخيرة على كتابي الموسوم: "الأب منويل مسلَّم: أيقونة وطن"، شدني الكثير مما قاله وقام به؛ سواء كراعٍ للكنيسة في الزبابدة أو في مدينة غزة، حيث كان عنواناً نضالياً ورجلاً إصلاحياً بين الناس بغض النظر عن انتمائهم الديني، وعمله كذلك كمشرفٍ للمحاضن التعليمية، التي أسسها في تلك الأماكن، بجعل المدرسة مثابة تربوية للجميع من أبناء وطنه دون تمييز على أساس ديني، إضافة لحرصه الدائم أن تكون المساعدات الإغاثية التي يقدمها للفقراء والمحتاجين تشمل المسيحيين والمسلمين، وأن يظهر بجدارة في المشهد الوطني كممثل "للكل الفلسطيني".

لقد روى لي أكثر من شخص مسلم عرف الأب منويل أو عمل قريباً منه قصصاً تحمل روح هذه المعاني والقيم الوطنية والإنسانية، ولعلي هنا اقتصر على ذكر حادثتين سمعتهما من الأستاذ عبد العزيز أبو صفية؛ سكرتير الأب منويل في مدرسة العائلة المقدسة خلال فترة إقامته في قطاع غزة. الأولى؛ عندما كانت تأتي بعض المساعدات الكنسيِّة الخارجية لتوزيعها على أبناء الطائفة المسيحية، حيث كان يساهم من جيبه الخاص لتتوسع دائرة التوزيع لتشمل المسلمين من الفقراء وذوي الحاجة أيضاً.

والثانية؛ أن طلاب مدرسة من مدينة رفح قدموا في حافلتين لزيارة ترفيهية لمدينة غزة، ثم انقطعت بهم سبل العودة في المساء، بسبب إغلاق جيش الاحتلال لحاجز "أبو هولي"، فما كان من الأب منويل عندما علم بالأمر إلا دعوتهم والترحيب باستضافتهم في مدرسة "دير اللاتين" تلك الليلة، وأعد لهم كل ما يلزم من طعامٍ ومنام مريح.

أما حسه الإنساني العابر للطائفية، فربما تُجسده تلك القصة التي سمعتها منه، ومفادها: أن الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) أرسل له ذات يومٍ طفلاً فقيراً لتسجيله في المدرسة، وكان يحمل معه بهذا الخصوص رسالة قصيرة من الشيخ، مفادها: قبول الطالب، مع الاستعداد بتغطية الرسوم المدرسية حين يتمكن من ذلك. كانت المدرسة في تلك الفترة قد أنهت الربع الأول للعام الدراسي، يقول الأب منويل: "وصلتني هذه الرسالة الإنسانية، قبلت الطفل في المدرسة، واعتبرت الرسالة الكريمة بمثابة شيك بنكي، وكتبت للشيخ: صرفت الشيك، ودفعت رسوم المدرسة جميعها، وزاد معي مائة شيكل وضعتها في جيب الطفل".

لن ينسى أحد للأب منويل مواقفه خلال الفترات التي كان فيها قطاع غزة يتعرض لعدوان إسرائيلي غادر، حيث يتحول إلى داعية لنُصرة أهالي القطاع وتعزيز صمودهم، والارتقاء بروحهم المعنوية، وتشجيعهم على الالتفاف حول المقاومة في مواجهة المحتل الغاصب.. سابقة في العلاقة مع المسلمين لم تحفظ كتب التاريخ الكثير منها، كما أن مواقفه المشهودة في دعم المقاومة كحق لاستعادة الوطن السليب، ونصرة مسيرات العودة وفعاليات كسر الحصار، واعتراضه القوي لكل من يحاول التطبيع مع الكيان الغاصب، وقد رفض الأب مسلَّم زيارة البابا تواضروس الثاني للقدس وندد بها.

ورغم أن التاريخ المسيحي يحفل بصفحات مشرقة لشخصيات دينية تركت لها بصمة وأثر كالمطران كبوتشي والأب عطالله حنَّا، إلا أن الأب منويل قد تقدم الجميع، وسبق الركب بأكثر من خطوة للأمام.

إن تدبر كلماته التي يطلقها في المناسبات الوطنية كيوم الأرض تجعلك مفعماً بالأمل، وتعزز من ثباتك وصمودك وتحديك للمحتل الغاصب. لقد كانت تغريدته الأخيرة بمناسبة ذكرى يوم الأرض تحمل أكثر من معنى وبيان، حيث أشار قائلاً: "أيها الفلسطيني: أرضك ليست في كتبك وخرائطك، إنها اليوم في فوهة بندقيتك.. تراب حيفا ويافا والرملة واللد وبيسان وبئر السبع قدَّموها منحة لإسرائيل المستعمرة الغازية!! فاستودع فوهة بندقيتك هذه الأمانة لتحررها. انها لك. كلها لك.. وإن رفاة وتراب أجساد أهلك وآبائك وأجدادك وديعة في صفد والناصرة وعكا ورأس الناقورة وأسدود وعسقلان وأُم الرشراش والنقب والجليل، فاجعل فوهة بندقيتك حارساً لها.. كما أن تراب القدس والأقصى والقيامة ومهد المسيح والحرم الإبراهيمي دنستها أقدام البرابرة، فَطَهّر أرضها بكحل رصاص بندقيتك.. وإن مياه الأردن وروافده وبحيرة طبريا والحولة والبحر الميت وسواقي فلسطين تَتَحَسّر أسيرة بيد أعدائك، ففجّر ينابيعها واغَمْرَها بقذائف بندقيتك...".

ليس بمقدور أحدٍ أن يأتي بمثل هذا الكلام البليغ والمعمد برصاص الفداء والتضحية كالأب منويل مسلَّم.

الأب منويل: أمنية الرجل الثمانيني

بالرغم من تقاعده الوظيفي لتقدم السنِّ، إلا أن الرجل ذو نبرة وهمَّة عالية، حيث ترتقي إنسانيته ووطنيته فوق أي حسابات أخرى، وكل ما يتطلع إليه هو تحقيق الإخاء والتسامح والتعايش بين "الكل الفلسطيني"، وأن تظل القدس بدلالاتها الدينية والحضارية وهويتها الفلسطينية هي بوصلة الجميع في مواجهة المحتل الغاصب. وعندما سألناه عما يحلم به ويتمناه وهو يخطو بعجلة العمر في عامها الثاني من عقده الثامن، أجاب: "أنا أُحاوِلُ إقامةَ لقاءاتٍ في القُرى والمُدنِ، ولي هدفٌ أن أسمِّي شارِعاً في كُلِّ قريةٍ باسمِ القُدس، وأغرِسُ شجرةَ زيتونٍ في كُلِّ قريةٍ باسمِ القُدس، وفي الجامعاتِ أن أزرعَ حرشاً باسمِ القُدس، وأن تكونُ أشجارهُ بأسماءِ المُتبرِّعينَ لِطُلَّابِ القُدس في الجامعة، وأتوقُ أن أُنجزَ وأحصلَ على ترخيصٍ لجمعيةٍ خيريةٍ إسلاميةٍ مسيحيةٍ باسم: "التينِ والزيتون"، يكونُ ريعُها للأُسَرِ الشابَّةِ في القُدس لدعمِ الوجودِ الديمغرافيِّ هُناك، وأتوقُ إلى بثِّ فكرةِ المُواطنةِ بأن نُعطِيَ شهادةَ مُواطنةٍ في القُدس لِكُلِّ مَنْ نَصِلُ إليْه، وأيضاً إقامةَ لقاءاتٍ تلفزيونيةٍ عن كُلِّ ما يتعلَّق بالقدس، والتصدِّي لجميعِ إرهاصاتِ الاحتلالِ على القُدس، وخاصةً ضمَّ القُدسِ وإعلانُها عاصمةَ إسرائيل، وأنَّها أرضُ الميعاد".

ولعلي أختم بهذه الكلمات الصادقة للأخ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، مشيداً بقدر الأب منويل ومكانته المتميزة، قائلاً: كيف يستطيع الفلسطينيون والمسلمون أن ينسوا الأب منويل مسلَّم ومواقفه الوطنية والإنسانية؟ لن ينسى أحدٌ نغمة صوتك ولا صورتك ولا ذكراك في التاريخ".

للأب منويل وأنت واثق الخطوة تمشي ملكاً، تجمعنا بكلماتك الحانية كأبناء وطن واحد مسلمين ومسيحيين، أشعر وكأنني أمام قامة وطنية قدَّمت النموذج والمثل للفلسطيني الذي يعرف طريقه نحو التحرير والعودة، فالقدس هي البوصلة، وهي التاريخ والحضارة وعنوان الوطن.

أمدَّ الله في عمرك أيها الأب الجليل، ليظل صوتك أنيساً لنا، ويبقى سيف كلماتك البتَّار بأبعاده الإنسانية والوطنية يذود معنا عن عرين الآباء والأجداد، وعن كرامة وتراث أرض الأنبياء والرسالات والأمجاد.