الأبعاد الحقيقية «للتهدئة» في القطاع

د. عبد المجيد سويلم
حجم الخط

من المؤسف حقاً ان يتم نقاش موضوع التهدئة على قاعدة ان هذا الاتفاق ليس جاهزاً بعد، او ليس جاهزاً بما يكفي للحكم عليه، او انه ما زال قيد الانضاج...!!
ومن المؤسف اكثر ان مثل هذا النقاش وعلى هذه القاعدة قد افضى في الواقع الى محو كل خطوط الفصل والتماس ما بين التفسير والتبرير، تماما كما ادى الى التعمية على اخطاره.
أقصد أن المناقشة تدور في حلقة تنطوي على الكثير من التضليل، واغلب الظن ان الحديث عن ان المسألة برمتها وكأنها «ما زالت قيد الانضاج» هو هدف تضليلي بحد ذاته.
ومثلما تم الحديث عن ان المسألة في «البدايات» الاولى لها مجرد دردشات فقد تبين الآن أن «الطبخ» قد تم بمشاركة فاعلة من قبل الجانب التركي والقطري، وان التفاصيل التي «لم» تعلن بعد، ليست بحاجة الى اي اعلان من اي نوع كان، لانها بكل بساطة باتت معروفة من زاوية المعنى والمدلول، ومن زاوية الجوهر والمضمون ايضا.
أين يكمن هذا التضليل؟
يكمن اولا في ان «الوسطاء» والأصحّ القول (المقاولين) هم أنفسهم الذين اقاموا مقاولاتهم على قاعدة تسويق جماعة الاخوان عند الاميركيين، وعند اسرائيل باعتبار ان ما يقبله الاميركيون يقبله الاسرائيليون حتى ولو على مضض، وان ما يقبله الاسرائيليون يقبله ويتقبله الاميركيون عادة. وبالتالي فإن هذه «المقاولة» لا تخرج عن كل محاولات هذين البلدين لاعادة وضع جماعة الاخوان على الخارطة السياسية بعد ان كادت تتلاشى هذه الجماعة عن هذه الخارطة بعد الهزيمة التي المت بها في مصر، وبعد تحجم دورها في تونس، وتراجع دورها في سورية، وتحول هذا الدور الى دور ارهابي مباشر في ليبيا.
اما الدليل على ذلك فهو التالي:
لماذا يتم الاعداد للطبخة بمعزل عن الحركة الوطنية الفلسطينية؟
هل ان مصير قطاع غزة هو شأن حمساوي ام وطني عام؟!
ثم لماذا اذا كان الأمر يتعلق بفك الحصار عن القطاع لا يتم بالتنسيق والتشاور مع الشرعية الفلسطينية والتي هي الجهة الوحيدة المخولة ابرام اتفاق له شأن وطني شامل.
الا تعرف كل من تركيا وقطر انه لا يحق لأي فصيل سياسي ابرام مثل هذه الاتفاقيات مهما كان حجمه ودوره؟؟
هل يحق على سبيل المثال ان تبرم جمهورية ما اي نوع من الاتفاق مع حزب سياسي تركي بمعزل عن الحكومة التركية، او ان يتم شراء الغاز القطري من عشيرة قطرية بمعزل عن الحكومة والدولة القطرية!!؟
كيف تجيز كل من تركيا وقطر لنفسهما أن «ترعيا» و«تطبخا» اتفاقاً من هذا النوع مع علمهما علم اليقين ان هذا الامر خارج عن كل اصول سياسية ودبلوماسية، بل وحتى عن اصول اخلاقيات العمل السياسي المعتاد.
كما يكمن هذا التضليل ثانيا في ان حركة حماس وبغض النظر عن التفاصيل باتت تعطي لنفسها «الحق» بالتصرف بقضايا تتعلق بالمصير الوطني كله من خارج المؤسسات الشرعية.
كأنه لم يعد كافياً ان تستولي على القطاع بقوة السلاح فاذا بها اليوم تطمح لتحويله الى مزرعة خاصة بالحركة، او محمية لجماعات الاخوان!!؟
كما يكمن هذا التضليل في محاولة توظيف عذابات اهلنا في القطاع بعد ان تم تحويله الى رهينة سياسية في بيع مشروع ما كانت تسميه حماس بمشروع المقاومة مقابل الاعتراف الاسرائيلي بسيطرتها الدائمة على القطاع، وتحويل هذه السيطرة الى واقع سياسي تحميه الاتفاقية، التي يتم تجهيزها او اخراج الاعلان عنها وبضمانات تركية وقطرية.
ويكمن التضليل ايضا في ان يتم الايحاء بأن المسألة هي مسألة اقتصادية او معيشية تتعلق بالاوضاع المزرية السائدة في قطاع غزة، في حين ان ما يجري في الواقع هو اعادة ربط للقطاع باسرائيل على مستوى التجارة والعمالة وعلى مستوى اعادة الاعمار، وربما على مستوى اعادة شرعنة السيطرة الاسرائيلية على كل المعابر بما يحول الحصار الى حالة شرعية معترف بها.
وبما ان «الاتفاق» هو مع فصيل سياسي وليس له اي جهة قانونية في اطار القانون الدولي، فإن كل هذه القضايا الاقتصادية ستكون خارج اي رقابة داخلية، ما سيحول المشروع كله الى مشروع اقتصادي لفصيل سياسي وليس لأهل القطاع، اما الجانب الأمني فحدث ولا حرج.
الرقابة الاسرائيلية على التسلح رقابة مباشرة، ومعترف بها، والرقابة الامنية على كل ما يدخل القطاع ويخرج منه كذلك، والسلاح مسموح باقتنائه فقط دون اي زيادة ومسموح باستخدامه وفق الرؤية الاسرائيلية فقط، وهو موجه نحو «الوضع الداخلي» دون غيره.
أما المصالحة وانهاء الانقسام بموجب هذا الاتفاق وأما وحدة الوطن والقضية، ووحدة الشعب ووحدة التمثيل وشرعية التمثيل، وشرعية الاعتراف الدولي بالحقوق الوطنية وكذلك بالدولة الفلسطينية فهي كلها في مرمى هذا الاتفاق سواءً اشير الى ذلك او تمت التورية عليه.
بكل هذه المعاني والمدلولات لم يعد مهماً فيما اذا تم الاعلان عن الاتفاق من عدمه، وفيما اذا تم الاعلان عن التفاصيل من عدمه، بل وليس مهماً اذا ما تم التوقيع من عدمه لأن الأمر يتعلق بترتيبات وتفاهمات بين اسرائيل وكل من قطر وتركيا، وقد لا يكون مطلوبا من حركة حماس ان توقع على أي شيء.
نحن اذن امام اتفاق يضع القضية الوطنية على مفترق خطر قد يكون بمثابة نكبة سياسية جديدة للشعب الفلسطيني اذا لم يتم افشاله قبل فوات الاوان.
وبهذا المعنى ايضاً لم تعد المسألة مسألة مصالحة او انهاء للانقسام او اعادة توحيد هذه المؤسسة او تلك.
نحن في الواقع امام سطو جديد على المشروع الوطني وأمام مشاركة «فلسطينية» في هدم اركان الشرعية الوطنية وشرعية الكفاح الوطني وأمام تمزيق منظم لوحدة شعبنا ووحدة اهدافه.