الخيارات الفلسطينية الأخيرة

127.jpg
حجم الخط

مروان كنفاني

 

بعد فترة قصيرة من الزمن سوف تقدم الولايات المتحدة مبادرتها للإسرائيليين والفلسطينيين لحل النزاع بينهما. ولا يُعرف بعد كيفية طرح هذه المبادرة. هل ستسلم نسخة من نصوص المبادرة إلى طرفى النزاع؟ بالنسبة للإسرائيليين فإن المهمة سهلة حيث يتم ذلك من خلال السفارة الإسرائيلية فى واشنطن أو إرسالها مع مبعوث رفيع الدرجة يسلمها باليد لرئيس الوزراء نيتانياهو فى القدس. المشكلة هى مع الفلسطينيين، متحدين للمرة الأولي،  الذين رفضوا هذه المبادرة بشكل قاطع، والذين يقاطعون اللقاء أو الكلام أو تبادل الرسائل مع الإدارة الأمريكية الحالية ورئيسها. هل ستُرسل النسخة الفلسطينية من المبادرة من خلال دولة عربية، أو الجامعة العربية أو الأمم المتحدة؟ وحتى لو تم تجاوز هذه العقبة فهل سيُرسل نص المبادرة للرئيس عباس فى رام الله ممثلاً لكل الفلسطينيين أم أيضاً لزعيم حركة حماس فى غزة، لضمان موافقة أو رفض كل الفلسطينيين؟

قد يكون أسوأ ما فى توقيت طرح المبادرة الأمريكية التى لا تزال تفاصيلها فى علم الغيب، هو صعوبة وضع الجانب الفلسطينى تجاه هذه المبادرة الأمريكية المنحازة أصلاً، ذلك الوضع الذى لا يمكّننا أن نصفه كموقف يمثل جميع الفلسطينيين. الوضع الفلسطينى الحالى الذى يتمثّل بفصائل متعددة ومتنازعة، فاقدة الشرعية الانتخابية، تتهم بعضها البعض بالعمالة والتفريط، عديمة التنسيق مع بعضها البعض، يسيطر بعضها على ما تبقى من بعض أرض وشعب يعيش سنوات الرعب والخوف، ليس من جيوش الاحتلال فحسب، بينما يتضوّر بعضها الآخر جوعاً وقهراً فى ما تبقى لشعبنا من أرض فى قطاع غزة الحزين. كيف يمكن لأحد أن يأمل إمكانية أن يكون هناك جانب فلسطينى موحّد أو على الأقل منسّق للمشاركة فى تفاوض يهدف للتوصل إلى تفاهم بين الفلسطينيين مع إسرائيل، إذا كان الفلسطينيون أنفسهم قد فشلوا فى تحقيق تفاهم بينهم؟.

وفقاً للتجارب الماضية فإن ما يمكن  توقعه من الأطراف الفلسطينية تجاه هذه المبادرة، كما كان فى مبادرات سابقة، هو التمترس وراء الرفض الكامل والمطلق للصفقة أو المبادرة أو المؤامرة، قبل معرفة بنودها، فى تسابق ملحوظ لاتهام الفلسطينى الآخر بالخيانة والاستسلام،  كما شاهد العالم منذ أن أطلق الرئيس الأمريكى ترامب تلك المبادرة. بل قد  قرر الجانب الفلسطيني، الانسحاب من المشاركة فى موضوع يتعلق بمستقبلنا وحقوقنا وأهدافنا، عن طريق اتخاذ موقف بعدم الحديث والتفاوض والاجتماع مع الرئيس الأمريكى وأعضاء إدارته تعبيراً عن الغضب والعتب فى عالم  سقطت فيه وسائل الزعل والحرد. واكتفى جانبنا بالجرى وراء الرؤساء والمسئولين العرب والأجانب لمعرفة ما يقول ويفعل ويريد قادة العالم حول هذا الموضوع. الجرأة والواجب الوطنى فى هذا الموقف هو التصدى وليس الانسحاب، المواجهة وليس التهرّب. لقد قاومت وفاوضت، ولم تقاطع أو تتقوقع، مصر والجزائر والولايات المتحدة نفسها وتونس والهند وغيرها من دول مستعمريها، ونجحوا فى نهاية الأمر فى بناء دولهم الزاهرة اليوم.

تفهم وتعلم إسرائيل، المتحدة فى سياساتها الدولية والشريك والحليف الدائم للولايات المتحدة الأقدر من الجميع على الاطلاع على خبايا السياسة الخارجية الأمريكية، بما أشير إليه باقتضاب واقتصار فى بعض تصريحات أو إشارات صدرت عن الرئيس الأمريكى أو بعض معاونيه، أن إسرائيل مطالبة بالنهاية باتخاذ قرارات مؤلمة على حد تعبير الرئيس ترامب القليلة فى هذا المجال، وتنازلات متبادلة تم ذكرها فى تسريبات صحفية وتصريحات سياسية. بنود يعتقد البعض أنه ليس فى استطاعة أى رئيس وزراء، وبالذات نيتانياهو، أن يلتزم بها.

ولكن إسرائيل لم تعلن قبولها أو رفضها للمبادرة الصفقة، لا بالتصريح ولا بالتلميح، على الرغم من الانحياز المعروف للسياسة الأمريكية خاصة فى عهد الرئيس ترامب، الأمر الذى يميل بعض الخبراء فى هذا الصدد فى تفسيره إلى أن إسرائيل تريد ترك الساحة للفلسطينيين لرفض المبادرة الصفقة.

هل نحن كفلسطينيين نرفض تلك البنود التى كافحنا بالدم لتحقيقها؟ أليس من الأفضل لنا أن نؤيد ونثبت البنود التى تحقق أهدافنا ونرفض البنود التى تنكر تلك الحقوق والتى يؤيد معظم دول العالم موقفنا فى ذلك الصدد؟

مازالت السلطة الفلسطينية فى رام الله ترى مصلحتها فى المقاومة الشعبية والسلمية للاحتلال الإسرائيلى فيما يبدو شعاراً خالياً من أى تخطيط جدى أو أدوات قادرة على التغيير. ومازالت السلطة، خاصة الرئيس محمود عباس يكرر رغبته فى إزالة الاحتلال بوسائل سلمية تدعمها دول العالم خاصة الأوروبيين. ولكن المعارضين الأساس لهذه الاستراتيجية ليسوا الإسرائيليين بل الفلسطينيين الذين يحكمون الجزء الجنوبى من بلادنا، الذين يرفعون شعار المقاومة ورفض اتفاقات السلام بينما هم أنفسهم منخرطون حتى العنق فى اتصالات ومفاوضات من أجل التوصل لهدنة دائمة مع إسرائيل المحتلة لأرضنا. يرى الرئيس الفلسطينى والسلطة الفلسطينية طريق الحل يبدأ بالولايات المتحدة بينما يرى زعماء حركة حماس المسيطرة على قطاع غزة أن الطريق يبدأ بإسرائيل التى تحتل قواتها الأرض الفلسطينية وتحاصر وتهدد الكيانية السياسية الفلسطينية الواعدة التى يريد الحمساويون إقامتها فى قطاع غزة.

فى أتون تعارك فتح وحماس لتثبيت ما تتحكم به من أرض ونفوذ، نسيت الحركتان الأقوى والأكثر شعبية حقيقة أن إسرائيل هى التى تتحكم وتفرض ما تريد على كليهما، باعتبار أنها القوة الغاشمة المحتلة القادرة على ذلك، وأن الخروج من هذا الوضع يتطلب الاتفاق والتعاون بينهما لوضع استراتيجية العمل المقاوم والسياسى الموحّد والفاعل والمتلائم مع واقع الصراع وميزان القوى والتحالفات الإقليمية والدولية. إن العالم بأسره وشعبنا الفلسطينى فى المقدمة يتفرج على مسلسل عراك هاتين الحركتين. ما الذى يريده الفلسطينيون؟ هل هو ما تريده السلطة التى تحوزها حركة فتح فى عاصمتها رام الله؟ أم ما تريده حركة حماس المتمركزة بقوة فى قطاع غزة؟ وإلى متى تتجنب الحركتان القائدتان الاستماع الى ما يريده الشعب الفلسطيني؟ ما هو الموضوع الأهم والممكن والمدعوم فلسطينيا وإقليمياً ودوليّاً؟

إن التمسك بالمقاومة السلمية والمطالبة بتنفيذ الاتفاقيات والقرارات والتكرار الممل للتصريحات التفسيرية الساذجة التى يكرر مفاوضونا اجترارها منذ ربع قرن قد لا تعطى نتيجة فى ساحة فلسطينية وعالمية جادة ومؤسسية. كما أن التظاهر الدامى بدون هدف سياسى ومعيشى تحت شعارات وهمية قد يثير بعض المشاعر الإنسانية لدى شعوب العالم ليس إلاّ. لم يعد التستر بشعار المقاومة مقنعاً، إسرائيل لا تريد احتلال غزة، وقوات حماس وصواريخها لا تريد تحرير الأرض الفلسطينية المحتلة ولا تدعى حركة حماس ذلك. حصار غزة وهمى مع عشرات الحافلات المحملة ببضائع إسرائيلية تتزاحم  حاملة بضائع مجموع أثمانها ثلاثة بلايين دولار سنويّاً. الوضع السيئ المحزن للفلسطينيين فى قطاع غزة لا يتأتى من خارج حدود قطاع غزة ، ولكنه مصنوع بقرارات من سلطة حماس فى غزة وعقوبات مقررة فى مدينة رام الله الجميلة.

يتعلق أول بند فى وضع استراتيجية فلسطينية فاعلة فى المرحلة الصعبة القادمة بإسرائيل، وأيضاً بالولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها ترامب، والدول العربية والإسلامية، والمقاومة السلمية والمقاومة المسلحة، والعالم بأسره.

ولكن أهميته القصوى تبقى للشعب الفلسطينى نفسه يتمثّل هذا البند فى تحقيق  وحدة الشعب الفلسطينى وحكومته ومؤسساته وأهدافه ومستقبله ونجاحه.

وحدته فى الحرب والسلام، ومرجعية الشعب وحده فى انتخاب حكامه، وحماية المجتمع الفلسطينى المدني، وسريان القانون واحترام حق المواطن الفلسطينى فى الحياة الكريمة.

الجزء من الشعب الفلسطينى الذى يعيش على ما تبقى من الأرض الفلسطينية هو الركن الأساس والأمل فى استرداد حقوقنا الشرعية أينما يكون الفلسطينيون. إن فشلنا فى تحقيق وحدة شعبنا بعد أكثر من عقد على انقسامنا لم يكن بفعل إسرائيل أو الاحتلال، وإنما كان باختصار شديد نتيجة سياسات مرسومة ومقررة من الحركتين الرائدتين اللتين لا تريدان لشعبنا أن يتحد، ولسوف تأتى نهاية هذين التنظيمين ومن  يدور من فصائل فى فلكهما نتيجة حتمية لهذا الفشل.

البند الأساسى الثانى للإستراتيجية الفلسطينية فى عهد الإدارة الأمريكية ورئيسها ترامب وإسرائيل ونجاح نيتانياهو فى العودة لرئاسة الوزراء هو العمل على إبقاء القضية الفلسطينية حيّة فى المحافل الدولية، والعلاقات الثنائية مع دول العالم فى دوائرها العربية والإسلامية والدولية. لن يفيدنا اليوم أن نكتفى بتكرار حججنا وشكاوانا عن سياسة الولايات المتحدة المنحازة، وعن إجراءات جيش الاحتلال الإسرائيلى وعن مصادرة الأراضي، فى سياسة أثبتت عدميتها وفشلها.

لقد أكل الدهر وشرب على الفريق الفلسطيني، القادر على إدارة المفاوضات والتعامل مع المبادرات والتقدم بنصوص واقتراحات وليس انتظار ما يقدّم الأمريكيون والإسرائيليون والتصدى لها ببضع تصريحات صحفية لا تغنى من جوع. هل اكتشف بعضنا اليوم فقط نوايا إسرائيل وأهدافها فى الأراضى المحتلة؟ أو انحياز الإدارات الأمريكية المتكررة وخاصة الإدارة الحالية ورئيسها؟. يخلص الباحث المطلع إلى أنه ليس لنا سياسة فى مواجهة سياسة إسرائيل والولايات المتحدة المتعلقة بالمفاوضات والاتفاقات، تماما كما أنه ليس لنا سياسة فاعلة وموحّدة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلى لأراضينا المحتلة.

بعد فترة زمنية قصيرة سيتم إعلان صفقة العصر التى أشبعناها رفضاً قبل أن نعرف فحواها. وقد تكون بنودها أسوأ، أو ربما أقل سوءاً، من النثرات التى تسربت لنا عن طريق رؤساء عرب وأجانب واجتهاد صحف عالمية.

فماذا سنعمل؟ أمّا الرفض فقد أشبعنا المولود فى بطن أمه بكل ما لدينا من رفض قد يساعد إسرائيل على التملص من أى بند محرج لها أو ربما التخلص من المبادرة بكاملها والعودة لحقائق الوضع الراهن المؤلمة.

أمّا الاعتراض والحشد الدولى والعربى المعنويين فلن يمنع التنفيذ. وأمّا التعديل والحجة والنقاش الذى يسبق القرار فنحن لا نستطيعه لأننا قد اتخذنا قرارا بعدم الحديث أو اللقاء مع الأمريكيين، بالرغم من أننا كفلسطينيين، تقودنا حركتا فتح وحماس، نتحدث ونتناقش ونتفاوض مع الإسرائيليين  يوميّاً، مباشرة أو غير مباشرة! هل سنلجأ لأحد الرؤساء العرب للتوسط لنا أو التفاوض نيابة عنّا؟ وماذا سيحصل فيما لو تم، نظريّاً، التوصل لصيغة  قبلتها حركة فتح ورفضتها حماس أو العكس؟ لقد آن الأوان لنتحمل موحّدين وصامدين مسئولية الدفاع عن حقوق شعبنا الشرعية، فى أى محفل ومع أى دولة.

الاشتباك الإيجابى فى كل ما يتعلق بأرضنا وشعبنا يجب أن يكون شعارنا فى المرحلة العصيبة القادمة.

وحشد شعبنا وأشقائنا العرب وحلفائنا للتوصل لحقوقنا الشرعية التى يؤيدها معظم شعوب وحكومات العالم. لا تستطيع قوة أو جبروت أو حصار أو تجويع إرغامنا على قبول أقل من ذلك، ولا غير ذلك، سوى أنفسنا وتفرقنا وتعادينا.