تموت السياسة على أعتاب السلطة، في مذابحها وفي مسالخها، فلا يبقى غير المصالح الشخصية والزبائنية، المحرك والدينمو الذي يجري الاستعاضة عنه بعيدا من الوطنية والأخلاقيات والقيم والمبادىء، فلا تموت السياسة وحدها، بل وبعض القيم، وتضييع أو تجاهل الكثير من الحقوق، ويموت معها بعض السياسيين وبعض النخب؛ فلا يبقى سوى "الاقتصاد السياسي المعولم"، وحساباته المنفعية والتبادلية، فتصبح القضايا والمسائل أكثر خضوعا للمقايضات، لا لمنطق التفاوض أو المفاوضات، يفرضها الأقوى؛ البلطجي صاحب السطوة، المعادي للحق وأصحاب الحق وقضيتهم وقضاياهم العادلة، الساطعة؛ بل الأكثر سطوعا من "شموس" الكذب والخدع والرياء والتلفيقات الكهنوتية والتوراتية والتلمودية، وشرائع مزوري التاريخ وورثتهم من كولونياليي الغرب والاستشراق العدواني والاستيطاني، ممن يراد لهم اليوم أن يقودوا مرحلة من أشد مراحل التاريخ سوادا وعنجهية واستعلاءا، وهم يحاولون تصفية إرث الوطنية والوطن الفلسطيني، واستئناف ومواصلة اقتلاع من تبقوا في أرض فلسطين التاريخية، وإبعادهم ولو معنويا عن قضية شعبهم الوطنية، واستبعادهم واستعبادهم عمليا، حتى ولو بقوا داخل وطنهم، حيث لا حقوق لهم ولا رمزية حتى لوجودهم، بعد أن يتم تصفية حقوقهم السياسية التاريخية في وطنهم التاريخي.
قبل عام من الآن بدأت الإدارة الترامبية التمهيد لما ستطرحه من مخطط جهنمي، لتصفية القضية الوطنية الفلسطينية، بمعونة قوى إقليمية مؤثرة وهامشية، للوصول إلى هدف تحقيق الأمن والأمان لكيان الاستيطان الكولونيالي القائم اليوم في فلسطين، وبإشراك بعض قوى سلطوية فلسطينية ما تني تمانع لفظيا حتى اللحظة. ومن مقدمات ذلك المخطط، حسم مسألة القدس وتصفية وجودها بين بنود قضايا المفاوضات (لو جرت)، وجعلها عاصمة لكيان الاحتلال، وحسم السيادة على الجولان ووقف دعم الأونروا ودعم الاستيطان في مناطق القدس والضفة الغربية، مقدمة للضم وفرض السيادة الاحتلالية عليها؛ وكلها عناوين لمخطط التصفية النهائية لقضية وحقوق الشعب الفلسطيني.
في هذا السياق تأتي دعوة الولايات المتحدة الإربعاء الماضي (22 آيار/مايو الجاري) من على منبر مجلس الأمن، إلى حل وكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين (أونروا) قبل أسابيع من الكشف عن الجانب الاقتصادي من مخطط ترامب – نتنياهو التصفوي، لما يسمى السلام في المنطقة، وإحالة مهامها للدول المستضيفة للاجئين والمنظمات غير الحكومية، على أن تقع على عاتقها كل الخدمات التي كانت تقدمها الوكالة الدولية، بمعنى رفع المسؤولية عن الدور الذي أنيط بالأونروا منذ توليها الإشراف على تقديم الخدمات الضرورية للاجئين، منذ بدايات نشوء مسألة اللاجئين في أعقاب نكبة العام 1948.
وفي نقلة نوعية من عالم الدول والسياسة والدبلوماسية، وقيم مجتمع العدل والشرائع الإنسانية الدولية، إلى عالم نخب الاقتصاد والمال والأعمال، أعلن البيت الأبيض عقد مؤتمر اقتصادي دولي في مملكة البحرين في أواخر حزيران/يونيو المقبل لما أسماه "دعم الفلسطينيين" في غياب الفلسطينيين، وعدم توافقهم على القبول أو رفض مخطط تصفية قضيتهم، ضمن خطة لسلام مزعوم. في وقت لم يعلن غرينبلات مبعوث ترامب أي استعداد لحوار مع الفلسطينيين، بقدر ما أبدى استعداد الولايات المتحدة لإطلاق حوار مع الحكومات التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيين، مشيراً إلى أنه "لا يجب أن ننتظر حتى يتحقق الحل الشامل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي"، لافتاً إلى "أننا سنشارك في مؤتمر اقتصادي بالبحرين لوضع مسار بديل لتحقيق تطلعات الفلسطينيين"، وهذه أزعومة أميركية متفق عليها مع كل الشركاء، والأحرى القول أن كل ما سيقدم عليه من خطوات السلام المزعوم، لا يتعدى تحقيق تطلعات الإسرائيليين ومن خلفهم أصحاب الرؤى الكولونيالية والاستشراق الاستعماري الطامع ببلاد النفط والغاز، وتشجيع أنظمة الاستبداد على ديمومة بقائها ممثلة لغير مصالح شعوبها ومجتمعاتها.
من الواضح حتى الآن أن كل ما يقدمه الأميركيون للفلسطينيين والعرب، مجرد وعود غير قابلة للتعهد بتنفيذها، فيما هم يتعهدون للإسرائيليين بتنفيذ ما يريدون، بل وأكثر مما يتساوق ورؤى قوى اليمين المتطرف الإسرائيلي ومن خلفها قوى اليمين الشعبوي الأميركي والأوروبي، في ظل صمت قوى التطبيع العربي للتخلص من أعباء قضية الفلسطينيين وما شاكلها من قضايا عربية، وتشجيعها العداء للفلسطينيين وحقوقهم الوطنية، الأمر الذي يكاد يفسر الاتجاه لما يسمى "السلام الاقتصادي" واستعداد بعض العرب تمويل بيع الوطن الفلسطيني وكل ما يتعلق به، وفي المقابل شراء رضا الأعداء الأميركيين والإسرائيليين، وكما كان قد أكد وزير الخارجية الأميركي جورج بومبيو من أن صفقتهم "تقدم فرصة لمستقبل أفضل للفلسطينيين (تحت الاحتلال) رغم أنه لا يمكن التعهد بتحقيقه بصورة مؤكدة" تحت أي ظرف من الظروف؛ فعن أي سلام يجري الحديث؟.
تقوم المعادلة الأميركية التي تستند إليها صفقة ترامب – نتنياهو الهادفة لتصفية قضية الفلسطينيين الوطنية، على قاعدتين متلازمتين الأولى دعم استيطان الأرض وضم ما تبقى منها في الضفة الغربية والقدس، وهذا هو المطلب الإسرائيلي الأكثر إلحاحا اليوم، وتطلعا إلى المستقبل، والثانية خوض سباق اقتصادي يحقق للولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل، تحقيق أمنياتهما بعدم خسارة أي من ممتلكاتهما وثرواتهما لشراء سلام موهوم، بقدر ما يراد للشركاء الاقليميين الدفع من ثروات شعوبهم، استجابة لتحقيق تطلعات الحلف الأميركي – الإسرائيلي لجلب مثل هذا السلام الاقتصادي – السياسي، الكفيل بإجهاض تطلعات الفلسطينيين الوطنية، ورؤيتهم لتحرير وطنهم وإقامة دولة لهم في أرض فلسطين التاريخية، وليس في أي مكان آخر بثمن يتلخص بـ "تمكينهم" اقتصاديا وتجاريا أولا، وبثمن يتخلص بموجبه الفلسطينيون من وطنهم وأرضهم وممتلكاتهم وحقهم المقدس بالعودة إلى أرض آبائهم وأجدادهم.
وتلك هي فحوى الأهداف النهائية لصفعة صفقة نتنياهو – ترامب لشطب القضية الوطنية سياسيا، وإفقار أهلها اقتصاديا والتخلي عنهم بشهادة شهود من أشقائهم بعض عرب الإقليم، الذين يخوضون في السياسة، كما يخوضون في مقامراتهم ومغامراتهم لعبا وتبديدا لثروات شعوبهم، على طاولات القمار وألعاب التجارة بالأوطان.
في كل الأحوال لن تستطيع الولايات المتحدة أن تقلع بخطتها ومخططاتها للمنطقة، بدون خطة دفع مالي هائلة، لا تريد أو لا تنوي إدارة ترامب أن تمولها من جيوب ميزانياتها الداخلية أو ميزانيات "معوناتها" الخارجية، وإنما تسعى لأن يدفعها الحلفاء الاقليميون الخلص؛ فبدون خطة سياسية جدية، لن يكون ممكنا البدء بالشق الاقتصادي من مخطط ازدهار حالم، بل وواهم؛ لا سيما إذا ما أضفنا إلى المسائل المتفجرة في المنطقة، محاولات إيقاد نيران حرب إقليمية مع طهران، أو مع وكلاء لها ها هنا في المنطقة؛ حرب يجري تسخينها بانتظار سخاء تمويلها من جيوب حلفاء واشنطن ذاتهم، في وقت لا تملك إدارة ترامب أي خطة سياسية لما تسميه "مسألة سلام الشرق الأوسط"، وكل ما يهمها أن تواصل استجاباتها لما يرضي أهداف وتطلعات أطراف اليمين المتطرف الإسرائيلي، ومتطلباته وشروطه وضغوطه، في استغلال مفضوح لوجود إدارة شعبوية أكثر يمينية في البيت الأبيض، لا تفوت مطلبا إلا ويجري تبنيه وتنفيذه، ولو على حساب مصالح الولايات المتحدة ذاتها.
وكما اتضحت مرامي وأهداف مؤتمر وارسو (13 – 14 شباط/فبراير 2019)، سيتضح بعد حين أن أخطر الدلالات التي سيكشف عنها مؤتمر البحرين، وما قد يتلوه من تداعيات الكشف عن بنود الصفقة ذات المرجعيات الكولونيالية، أن العديد من الأنظمة الرسمية العربية المشاركة في المنامة، وغيرها من الدول المشاركة عن بُعد، لا يختلف تطبيعها وعلاقاتها، كما تأييدها الضمني والواضح لسياسات احتلالية معادية للحقوق الوطنية الفلسطينية، حتى في هذه المرحلة التي تقود الصفقة الترامبية إلى حسم مصير ما تبقى من الضفة الغربية، وإلحاقها بسرديات الضم التي بموجبها جرى احتلال فلسطين عامي 1948 و1967، ويجري اليوم سلب القدس وضم الجولان والتهيئة للإعلان عن ضم الضفة الغربية، وتسييد الاحتلال الكولونيالي على كامل أرض فلسطين التاريخية، وذلك بتبريرات فاضحة لا يمكن القبول بها، أو ببعضها؛ فالاحتلال لا يمكن أن يكون أقل استعمارا استيطانيا، أو استعمالا للإرهاب والترهيب والعنف الفاشي، ولا يمكنه أن يتحول مهما بدل من أساليبه، إلى عنصر يجلب الرفاهية والازدهار لشعب واقع تحت أسوأ الاحتلالات الكولونيالية عبر التاريخ، بل إن خروج الاحتلال والتخلص منه والاستقلال عنه، هو ما يمكن أن يمنح الشعب الفلسطيني حريته في تقرير مصيره، مرة وإلى الأبد.
