التدين والعلمانية في إسرائيل

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

منذ بدايتها، سعت الحركة الصهيونية لإحاطة نفسها بالمظهر الديني؛ إلا أن بُناة الكيان الإسرائيلي الأوائل كانوا في معظمهم من العلمانيين، والقوميين؛ ومع ذلك، فإن الصهيونية ومنذ ذلك الوقت المبكر، لم تفصل أصلا الانتماء الديني عن الانتماء القومي، فبرزت مشكلة الصراع بين العلمانيين والمتدينين، فالصهيونية سعت بدايةً لدمج الديني بالقومي، أي المزج بين الأساس والجوهر الديني، والدعوة ذات النزوع القومي، والمظهر العلماني وصهرها معا في إطار دولة، وخلق أمة؛ وهذا يتنافى مع تعريف الأمة الحديثة.
لذلك، ظهرت معالم الأزمة في الحركة الصهيونية؛ إذ إنها قامت على أسس ودعاوى دينية، منطلقة من شعارات وأساطير ميثولوجية: الأرض الموعودة، وشعب الله المختار، والحق الديني والتاريخي.. بل إن اليهودية قامت أساسا على تصور قبَلي عن الألوهية؛ تعتقد بأن الله خصّهم وأعلاهم فوق البشر.
أي أن فكرة إسرائيل، التي تبناها بداية اليهود العلمانيون، فكرة تستند للدين بشكل أساسي، لذلك تظل العلمانية الإسرائيلية ناقصة، بسبب تبرير العلمانيين الإسرائيليين لحاجتهم للمعتقدات والشعارات الدينية، وهذا يخلق تناقضا في حياتهم، يهربون منه بالتمسك بالتقاليد الدينية.
ما يعني أن الصهيونية بالأساس، ما هي إلا محاولة جديدة لتفسير الأسطورة الدينية اليهودية، وهي ليست عملية استبدال جذرية للأسطورة، بل هي إسباغ الأسطورة الدينية بمفاهيم قومية أوروبية.  
وبعبارة أخرى، أراد المؤسسون الأوائل إسرائيل دولة يهودية، على ألا تكون علمانية بشكل كلي، بل أن تكون ليبرالية ولكن مرتبطة بالموروث الثقافي اليهودي، بحيث تكون التوراة بمثابة صك ملكية الشعب اليهودي لأرض إسرائيل، ومن ثم تطوير علاقة بين الأسطرة اليهودية والعلمنة الإسرائيلية. وبالتالي، ليس هناك فصل واضح بين الدين والدولة في إسرائيل.
وبعد تأسيس إسرائيل، ظلت النخب العلمانية الحاكمة حريصة على عدم الصدام مع المتدينين، بل وعملت على استيعاب الجماعات الدينية داخل المجتمع الإسرائيلي، وكان يحركها سعيها إلى إعادة تعريف الهوية الجماعية لليهود تعريفا يتطابق مع هوية إسرائيل، بحيث يخلط هذا التعريف بين المكونات الدينية والمكونات الوطنية. بيد أن التيار المتدين اليميني بعد حرب حزيران أتخد خطا تصاعديا، ما زال متصاعدا إلى الآن، لدرجة أنه أقصى اليسار والعلمانيين جانبا. 
وبالنظر إلى مكونات المشهد الداخلي الإسرائيلي خلال العامين الأخيرين 2017~2018، سنجد أنه يسير باتجاه إعادة تشكيل وجه إسرائيل نحو اليمينية، ذات النزعة القومية الدينية العنصرية، ونحو ترسيخ القيم اليهودية الدينية وتعميمها في ثقافة المجتمع، ونحو مزيد من التغلغل الديني في مؤسسات الدولة والمجتمع والجيش والقضاء.. متجاوزا بذلك (وربما لاغيا) الطبيعة، أو المظهر العلماني التي طالما اتسمت به إسرائيل. 
وبتحليل أولي للمجتمع اليهودي الإسرائيلي، سنجد أنه يتكون من أربع فئات: الحريديم، (اليهود الأرثوذكس، وهم غير صهيونيين)، والمتدينون الصهاينة، والمحافظون (التقليديون)، والعلمانيون.. وهناك حالة من التصدع بين هذه الفئات، أهمها النزاع بين العلمانيين من جهة، والفئات المتدينة من جهة ثانية، مدعومة من الحكومة. 
وفي استطلاع للرأي أجراه الجهاز المركزي للإحصاء الإسرائيلي (2010)، ونشرته "هآرتس"، جاء فيه أنّ 42% من سكان إسرائيل اليهود يعرّفون أنفسهم بأنهم علمانيون، و8% يعرّفون أنفسهم بأنهم متدينون جدا. و12% صنفوا أنفسهم متدينين، و13% إنهم متدينون تدينا تقليديا، فيما قال 25% إنهم محافظون، لكنهم غير متشددين دينيا. معنى ذلك، أن غالبية السكان عرّفت نفسها بأنها غير علمانية. ما يعني أنّ نسبة العلمانيين اليهود انخفضت من 82% عشية قيام إسرائيل، إلى 42% بعد أكثر من ستة عقود.. بينما زادت نسبة الحريديم والمتدينين والمحافظين من 18% إلى 58% في نفس الفترة. 
وفي السنوات العشر الأخيرة شهدت إسرائيل مزيدا من الانزياح نحو التدين، بفعل العامل الديموغرافي أولا، وسياسات الحكومة ثانيا، وبفعل نشاطات الجماعات المتدينة ثالثا؛ التي تعمل جاهدة على ترجمة هذه التحولات على أرض الواقع، وذلك من خلال تغلغلها في مؤسسات الدولة والمجتمع، حيث اهتمت بشكل خاص بوزارتين، تحاول من خلالهما تثبيت هذه التغيرات؛ الوزارة الأولى هي وزارة المعارف، لما تمثله من دور كبير في التنشئة الاجتماعية، والثانية هي وزارة العدل، المسؤولة عن المحاكم.
اليوم، نلاحظ بسهولة مظاهر التزمت في المناطق التي تتركز فيها الجماعات المتدينة (حي مائة شعاريم في القدس وبعض أحياء تل أبيب وأشكلون، وفي كل المستوطنات الدينية) مثلا: التشدد في موضوع عطلة السبت، لدرجة إلقاء الحجارة على السيارات أيام السبت، اعتبار النساء "هلاش"، أي نجاسة، لذلك لا يمكن للحريدي المتشدد أن يجلس إلى جوار امرأة! وأيضا: فرض النقاب على النساء، ورفض مصافحتهن، وقد وصل الأمر إلى حد اقتراح تقسيم أحد الشوارع في القدس إلى نصفين واحد مخصص للرجال، والثاني للنساء، وبينهما ساتر من القماش، نزع كل إعلانات الدعاية التي فيها صور النساء من الشوارع، إجبار النساء الجلوس في مؤخرة الحافلات، تأسيس "جماعة العفاف"؛ وهي مجموعة من المتزمتين لها صلاحية مهاجمة البيوت، إذا شكوا فيها، لتأديب مَن فيها، رجالا ونساءً بالضرب والتهديد. وكذلك تعرض النساء الحريديات المحتشمات عند حائط المبكى للإهانات، والضرب، إذا اقتربن من هياكل الذكور أو من ظلالهم، ومنع النساء من الاتصال مع إذاعات الحريديم لأن صوتهن فاحشة وخلاعة. حرمان الأمهات العلمانيات من أبنائهن المتدينين، خطف أبناء اليهوديات المتزوجات من غير اليهود.. حتى تحوّلت القدس إلى سجنٍ قهري للنساء اليهوديات! (توفيق أبو شومر).
يصف جدعون ليفي هذا التصدع (العلماني/ الديني)، بالتالي: "إسرائيل باتت أكثر قربا إلى طهران من ستوكهولم. من الولادة إلى الوفاة، ومن الختان إلى الجنازة، ومن إقامة الدولة إلى إقامة المستوطنات.. يبدأ الأمر من مجرد وجودنا هنا.. على حجج لاهوتية؛ فأبونا إبراهيم كان هنا ولهذا نحن هنا.. لا يوجد زواج وطلاق مدنيان، ولا تكاد توجد جنائز مدنية. كذلك قانون العودة وتعريف من هو اليهودي، والقوانين الأساسية.. كلها تعتمد على الشريعة.. التزمت بعطلة السبت.. ويقرر (حكماء التوراة) القضايا السياسية المصيرية.. لنعترف بأننا نعيش في دولة دينية؛ لنسقط القناع العلماني المتكلف الذي وضعناه على وجوهنا.. ليست إسرائيل كما تعتقدون، وليست ما نحاول أن نظهره لأنفسنا وللعالم".
شبه الصحافي الإسرائيلي روغل ألف العلماني الإسرائيلي بالشخص العاري في العصر الجليدي، ليس له شعر، ويرتجف من البرد. إن نهاية العلماني في إسرائيل هي الاندثار، رويدا رويدا سيهاجر، أو يغير قناعته ويصبح متدينا، ويقوم بتغطية نفسه بالشعر المطلوب من أجل البقاء.