ابن تيمية، بين الحقيقة والافتراء

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

تزعم أغلبية الحركات السلفية (القاعدة، النصرة، داعش، وغيرها)، أنها تتبع المذهب الحنبلي، ويضع الباحثون عادة سلسلة متصلة تبدأ بأحمد بن حنبل (توفي 855م)، ثم ابن تيمية (ت 1328م) ثم ابن الجوزي (ت 1349م)، وصولاً إلى محمد بن عبد الوهاب (ت 1791م).. والبعض يمد السلسلة إلى سيد قطب (ت 1966)، ويُقصد بهذه السلسلة تتبع منشأ التزمّت والسلفية وتواصلها حتى وقتنا الراهن. فما مدى صوابية هذا الطرح؟
بدايةً، لا ابن تيمية، ولا ابن الجوزي، ولا ابن عبد الوهاب يشكلون مذهباً فقهياً متسقاً، بل هم فقهاء مختلفون عن بعضهم، مع أنهم يتبعون المذهب الحنبلي. وبالرجوع إلى سيرة ابن حنبل، سنجد شخصية مختلفة عما تحاول تلك الجماعات تصويرها، صحيح أنه كان صاحب موقف فكري سَلفي متشدد، وكان يرفض أي فكرة أو رأي إذا لم تكن وردت في آية أو حديث، فقد قضى عمره يجمع الحديث، لكن تشدده كان في مسائل العقيدة، وقد دفع ثمن مواقفه بشجاعة، حتى أنه مات تحت التعذيب. ولسنا هنا بصدد رصد صوابه من خطئه، بيد أن الرجل لم يكن يقبل بالعنف، بل ليس أشد عليه من سفك الدِّماء، ولم يتطلع إلى سلطة عن طريق ثورة بزج الدِّين فيها، وقد شهد حرب الأمين والمأمون، يوم امتلأت بغداد بطغيان الغوغاء والمتطرفين، الذين سفكوا الدماء، واستباحوا الحرمات، ونهبوا الأسواق والبيوت.. فلم يتورط الإمام في الصراع الدائر، ولم يقحم فتواه فيه، بل دعا للسِلم. وحين احتشدت المجاميع للثورة على الواثق بالله، إثر تصاعد مسألة "خلق القرآن"، وكان ابن حنبل أحد المطلوبين بها، فجاءه أهل الحديث وشاوروه، فقال: لا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين، بل الصَّبر على ما نَحنُ فيه خيرٌ مِن فتنة تُستباح فيها الأموال، وتُنتهَك فيها المحارِم. (رشيد الخيون، البيان).
يعتقد البعض أنّ ابن حنبل سادن السلفية، والأب الروحي للأُصولية المتزمتة، وأنه جامد الفكر، عديم المرونة.. لكن هذا الاعتقاد غير دقيق تماماً، وطالما أن المسائل نسبية، يتوجب علينا النظر إلى مرحلته التاريخية، ففي وقته ظهرت الفرق والتيارات، وعلم الكلام، وتنازع العلماء فيما بينهم، وتصادم الفقهاء والفلاسفة.. فرأى أنَّ ذلك كله على حساب الدِّين، فاتخذ موقف التشدد والالتزام بالقرآن وما صح من الحديث، بعقلية نصوصية صارمة، لكنه لم يدعُ لقتال الخصوم، وسفك دمائهم، وبما أنّ التّكفير وعدم اعتراف الأطراف ببعضها كان سائداً ومتبادلاً، فلا يجوز أن نلوم ابن حنبل دون غيره.
الرجل الثاني الأهم في هذه السلسلة هو ابن تيمية.. البعض يعتبره "شيخ الإسلام"، والبعض يراه منبع التطرف والإرهاب، الذي أنجب الوهابية، وتفريخاتها الداعشية. فهل فقه داعش والنصرة والقاعدة هو فقه ابن تيمية؟ أم أن الرجل مفترى عليه؟
معظم فتاوى النساء (المتزمتة) تُنسب إلى ابن تيمية، ويفسر البعض تشدده وعداءه للمرأة، لكونه لم يتزوج، وبالتالي لم يفهم المرأة، ولم يختبر حقيقتها، ولم يسبر عالمها "الجواني"، فشكلت لديه عقدة، ظلت تذكره بجرحه الإنساني، فصار من خلال كتبه وفتاويه يمتهنها، ويشكك بوفائها، ويطعن في عقلها وإنسانيتها، ويسلبها أبسط حقوقها، حتى أنه تساءل ذات يوم: هل سترى المرأة ربها يوم القيامة مثلما يراه الرجل! فأجاب عن سؤاله بأنها ستراه، ولكن أقل من الرجل! 
صحيح أن هذه الفتاوى المتشددة وردت بالنص في كتبه، ولكن السؤال: هل فعلاً هو من أفتى بها أم أنَّ مَن أتوا بعده من متزمتين نسبوها إليه وهو براء من كل ذلك؟ 
يقول المفكر المصري يوسف زيدان: إن ابن تيمية "الحقيقي" كان فقيهاً متوسعاً، مرناً في الفقه، متشدداً فيما يتصل بأصول الدين، وقد أخذ موقفاً متشدداً من العلويين، لأنهم من وجهة نظره تعاونوا مع الفرنجة، أما المتصوفة، فقد هاجم بعضهم ممن اعتبرهم مشعوذين، فيما مدح عبد القادر الجيلاني وأثنى عليه، كما امتدح ابن عربي.. وكان واقعياً وابن عصره بكل ما فيه من محن وفتن، لم يلتفت لصغائر الأمور، بل رتب الأولويات، وجعل في مقدمتها مقاومة الغزاة، لذا كان يترك قلمه ويتفرغ لمجاهدة الفرنجة والتتار. 
لكن سدنة الفقه من بعده حجبوا من كتبه ما كان منفتحاً ورحباً، وأبقوا على فتاواه المتشددة (التي كانت بنت ظرفها الحرج)، ويشكك زيدان بما وصلنا من كتب ابن تيمية، التي لم يعثر على مخطوطات أصلية لها، فمثلاً كتابه "درء تعارض العقل والنقل" تبين أن أقدم مخطوطة له كُتبت بعد 550 سنة من وفاته. ولأنَّ خط يده كان "سيئاً"، وغير منقط، فمن الصعب جداً قراءته، ما يعني احتمالية قراءته بشكل خاطئ، وكتابه الأهم "الفتاوى الكبرى"، لم يُحقق، ولم يُصحح، وقد جمعه شيوخ الوهابية سنة 1970، دون منهجية علمية، ويبدو أنهم بنوا فقهاً جديداً ونسبوه إلى "شيخ الإسلام".
كما أن التطرف والعنف ظهرا قبل ابن تيمية بمئات السنين، الخوارج والقرامطة مثالاً.
خلاصة القول: قد يكون ابن تيمية حمامة سلام، وفقيهاً متنوراً، ذا عقل متفتح وقلب رحيم، وقد يكون بالفعل فقيهاً متشدداً، متحجر الفكر، وعديم الشفقة، لكنه في النهاية مجرد إنسان، مجرد مجتهد يصيب ويخطئ، نأخذ منه ما يناسب عصرنا، ونترك ما لا يقبله عقل، وما تعافه النفس السوية.. ولنتذكر أنه عاش في عصر كثرت فيه الفتن، والانقسامات، وتعرض فيه العالم الإسلامي إلى غزو التتار واحتلال الفرنجة، وكانت واحدة من أحلك فترات الضعف في تاريخنا كله.. لذا، يتوجب النظر إلى فتاواه وفكره من زاوية النسبية التاريخية.
تفصلنا عن ابن تيمية 700 سنة، فهل يُعقل أن نأخذ بفتاوى الغزو والسبي والجواري والعبيد والغنائم، ونحن في عصر حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والقانون الدولي، وعصر الإنترنت والاختراعات المدهشة، والاكتشافات المذهلة، التي لو عاشها ابن تيمية لكان شخصاً آخر!
المشكلة أن كتب التراث، والفقه، والأيديولوجية الوهابية، وفكر سيد قطب، بل فكر الإخوان المسلمين نفسه، والكتب المقررة في منهاج الأزهر، وأيديولوجية معظم الحركات السفلية والجهادية والداعشية.. كل هؤلاء يستمدون فكرهم وفتاواهم مما نُسب إلى ابن تيمية.. حتى أن معظم ما نعرفه عن ديننا الحنيف، وما نعرفه عن الفقه منسوب إليه تحديداً، لدرجة أن هؤلاء السلفيين يتجاهلون القرآن نفسه، ويتجاهلون أي حديث شريف لا يتفق مع نهجهم، كما لو أننا نستمد إسلامنا العظيم من ابن تيمية، ومن سار على نهجه.