أربعة أخطاء في نظامنا التعليمي

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

الخطأ الأول (وربما يكون الأهم)، يتعلق برسالة التعليم وأهدافه؛ حيث تعتبر وزارات التربية (بشكل عام) أنَّ هدف التعليم الأساسي تربية الطلبة على فضائل الأخلاق، وعلى الانضباط، والالتزام بقيم المجتمع واحترام عاداته، وتعزيز الانتماء للوطن، وإعلاء قيمة التضحية من أجل الـمُثل والرموز التي يؤمن بها النظام والمجتمع، واحترام الأنظمة والقوانين ومؤسسات الدولة ورموزها، وتبجيل القيم الدينية بما يرتقي إلى مستوى تقديس كل ما له علاقة بالدين. 
في ظاهر الأمر، تبدو الرسالة ممتازة، ولا غبار عليها.. ولكن في حقيقة الأمر، تعمل الدول والحكومات على توظيف هذه الرسالة بكل قيمها، بما يؤمّن لها إنتاج أجيال منضبطة على إيقاع النظام؛ أي إنتاج "المواطن المستقر"، و"المجتمع المنضبط"، بما يعني تغييب أي فرصة لبروز معارضة سياسية للنظام، وتقبُّل المجتمع للنظام الاقتصادي والطبقي القائم (بكل سلبياته)، وكبح إمكانية ظهور مبادرات فردية جريئة خارج السياق العام (فكريا، وسياسيا، وأدبيا، واجتماعيا)، أي بمعنى أدق تقييد الحريات العامة بغلاف القيم والقانون.. وهنا يأتي دور المجتمع مكملا ومنسجما مع هدف النظام السياسي، أي منع ظهور حالات فردية، أو مبادرات جماعية خارج النسق الاجتماعي الموروث والمستقر منذ قديم الزمان، وعادة من يتولى هذه المهمة رجال الدين، والقيادات القبلية التقليدية.
ومن خلال المناهج، تتولى المدرسة مهمة إنتاج أجيال جديدة مكررة ومنسوخة، تحمل نفس الأفكار والقيم السائدة، لتعطيل فرص التغيير المجتمعي والثورة على الموروث الثقافي، خاصة في المجالات التي تستوجب الثورة والتغيير.. أي أن المدرسة هنا تصبح حارسة للجمود الفكري.
ولتأكيد نتائج العملية التعليمية بما يحقق عملية تنميط وإخضاع الطلبة (الذين سيكونون ركائز وقيادات المجتمع بعد حين) بدت بعض الأنظمة الشمولية أشد وضوحا في هذا المجال، إذ بالغت في عملية تنميط الطلبة، وتوظيف طاقاتهم، والاستفادة منهم لخدمة أهدافها السياسية، ويظهر ذلك جليا في إنشاء فرق الكشافة، والمخيمات الصيفية، وتدريب الطلبة على السلاح، وتشكيل مجموعات شبه عسكرية، وأحيانا إخراج الطلبة في المسيرات السياسية والمهرجانات الخطابية.
وفي نفس السياق، تقوم المدرسة بفرض الانضباط على الطلبة، والانضباط لا يعني دوما نقيض الفوضى، بل قد يعني تجريم وإدانة كل ما هو خارج القيم والموروث الثقافي، أي حصر التفكير داخل الصندوق. وتحت مسمى الحفاظ على قيم المجتمع، والأخلاق (وهي مفاهيم من المفترض أن تكون نسبية)، يجري قمع التفكير الحر، وخنق المبادرات "المجنونة" في شتى المجالات.
وإلى جانب الانضباط، تستخدم المدرسة أدوات إخضاع وتنميط أخرى، مثل التركيز على موضوع الغياب، الزي الموحد، العقاب الجسدي واللفظي، الامتثال للتعليمات. 
لهذا، ليس غريبا أن تكون وزارة التربية الأشد من بين مؤسسات الدولة في البيروقراطية والتراتبية والانضباط.
وهنا يجدر التأكيد على أنه لا خلاف مع قيم رسالة التعليم نفسها، ولا خلاف على أهمية الأنشطة اللامنهجية، مثل فرق الكشافة والمخيمات الصيفية وغيرها، الخلاف مع توظيفها وتجييرها لخدمة هدف سياسي عام، يتمثل في خنق الحريات الفردية، وإجهاض روح التمرد، ومحاصرة المحاولات الإبداعية.
الخطأ الثاني، إيمان المؤسسة التعليمية بأن لكل سؤال إجابة، وهذه الإجابة واحدة، ومحددة، ولا تقبل التعددية والاختلاف.. أي الإجابة النموذجية، علماً أنه في الواقع لا توجد إجابات نموذجية قاطعة، ومطلقة (حتى في الفيزياء)، وبعض الأسئلة لا توجد لها إجابات واضحة، ولكل شيء وجهان على الأقل، والحقيقة نسبية، والمشكلة الواحدة يمكن حلها بأكثر من طريقة.. والسؤال الواحد يحتمل إجابات متعددة، وليس هناك شيء اسمه هذه الإجابة الصحيحة الوحيدة.. وهذا النمط من التفكير الإيجابي المرن يحفز الطالب على التفكير، وابتداع إجابته الخاصة، ويعوّده على فكرة التعددية والنسبية، وقبول الآخر المختلف.
وهذا مرتبط بالخطأ الثالث، وهو منهج التعليم البنكي، أي التعليم عن طريق الحفظ والتلقين وإيداع المعلومات.. وهذا يربي صفة الامتثال والتسليم، وبالتالي الانقياد للسلطة.. وهذا الخطأ يقوم أساسا على خطأ يسبقه، وهو منهجية التعليم باتجاه واحد، أي أن المعلم هنا وحده من يمتلك المعلومة، ومن يمثل الحقيقة، ومن يقوم بتلقين الطلبة، الذين سيكونون مجرد متلقين.. وللتوضيح، مثلا، في التعليم التقليدي يطلب المعلم من الطلبة حفظ قصيدة محددة، وفي الامتحان تتركز الأسئلة على تقديم تفسير محدد لبعض الكلمات، وعلى تقديم شرح نموذجي للقصيدة.. وما يحصل أن الطالب بعد الامتحان ينسى القصيدة، وينسى معانيها ومفرداتها، وقائلها، وربما يكره الشعر كله من ورائها.. بينما في التعليم التحرري، يطلب الأستاذ من كل طالب اختيار أي قصيدة يحبها (من خارج المنهاج)، ولا يشترط حفظها، ثم تجري مناقشة القصائد، حسب ما فهمه الطلبة والمعلم، من خلال تذوق القصيدة، وفهم روحها.. في هذه الحالة سيظهر من بين الطلبة من يحب الشعر، ويفهمه، وربما يكتبه لاحقا.. ومن لا يحب الشعر، بوسعه اختيار قصة قصيرة، أو رواية، أو أي مبحث أكاديمي آخر.. المهم هنا أنه لا إجابات محددة، ولا صواب مطلقا، ولا فرض لمفاهيم بالقوة، ولا حفظ وترديد كالببغاء، بل تفكير نقدي، وحـر، وخلاق، يقبل بالتعددية والتنوع.. ويؤدى بشكل جماعي تفاعلي.
وهذا يقودنا للخطأ الرابع، نظام الامتحانات.. حيث يتحول الامتحان إلى أداة مساعدة في عملية الإخضاع والتنميط، من خلال خلق حالة رعب من الامتحان، تستمر طيلة السنة، لما يمثله الامتحان من احتمال الرسوب (أي الفشل)، وهذا يعطي المعلمَ سلطة معنوية ومادية تضعه في مرتبة أعلى من الطلبة، كما أن نظام الامتحانات (الحالي) يخلق تنافسية فردية تعزز النزعة الأنانية.. بينما في التعليم التحرري لا توجد امتحانات بالمعنى التقليدي، بل يوجد تقييم نسبي، والامتحان يكون بأسلوب الكتاب المفتوح (لتحفيز التفكير والبحث)، أو يكون جماعيا لتعزيز التعاون والتفكير الجمعي وتبادل الآراء، واستعراض احتمالات متعددة للإجابات والحلول، من خلال النقاش الحر، ويكون دور المعلم لتسيير النقاش وإثرائه. 
تلك الأخطاء منهجية، وتأتي في صميم النظام نفسه، ومن داخل بنيته، وهي عموما تُمارس في معظم دول العالم، بما فيها فلسطين.. وهناك أخطاء بنيوية أخرى، تكاد تنفرد بها الدول العربية، لها علاقة بالمناهج وطرق التدريس.. وأخطاء أخرى تصنف ضمن الاجتهادات الخاطئة، والممارسات الفردية.. ومن الصعب التطرق لكل تلك الأخطاء، وقد نناقش بعضها في مقال قادم.