ما وراء إستقالة غرينبلات

حجم الخط

بقلم: الدكتور ناجى صادق شرّاب*

 

قد تحمل إستقالة جيسون غرينبلات، مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في الشرق الأوسط، دلالات عديده تتراوح ما بين توقيتها ومفاجأتها، وبين الأسباب الحقيقية ورائها، وتداعياتها على مستقبل السلام عامة وصفقة القرن خاصة.

الغرابة في الإستقالة توقيتها وليس مضمونها بأن يقدم استقالته قبل الإعلان الرسمي عن الصفقة حيث ذهب بالبعض إلى أنها تعني فشلا مسبقا لها، وإنخفاض مستوى التوقعات بالسلام.

وهنا بعض الملاحظات وقراءة سريعة للاستقالة:

أولا، انها لا تعني التخلي عن الصفقة. فالاستقالة تأتي بعد الإقتراب من الإعلان عنها ولذلك ليس مستبعدا ان يبقى في منصبه حتى الإعلان، فهو لا يعترض عليها، بل من أكثر المؤيدين والمتبنين لكل أفكارها.

ثانيا، الإستقالة لا تحمل معنى الرفض لسياسات وقرارات الرئيس ترامب بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، بل هو يقف وبقوة وراء كل القرارات التي إتخذتها الإدارة ألأمريكية من نقل السفارة ألأمريكية للقدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، وغلق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ووقف كل المساعدات عن وكالة غوث اللاجئيين الفلسطينيين، ومحاولة شطب الشرعية الدولية، فهو من أسس للتيار والسياسة المتشدده ، ولا ينتظر او يتوقع التراجع عنها، فستبقى سمة ثابته بغرينبلات أو بدونه، وقد تزداد تشددا نحو الفلسطينيين بعد الإعلان عن الصفقة ورفضهم المعلن والمسبق، وخصوصا إذا فاز الرئيس ترامب بالرئاسة لفترة ثانيه وهذا متوقع.

ثالثا، ان إستقالته قد تحمل تعبيرا عن عدم القدرة على تنفيذ الاتفاق، ولا يريد ان يدور في حلقة جوفاء، فبلا شك وخلال فترته القصيرة التي لا تزيد عن عامين وقف على كثير من التفاصيل، ومواقف الأطراف المعنية والتي تملك قوة التاثير في تحديد مستقبل الصفقة كمواقف بعض الدول العربية، ووصوله لقناعة ان لا دولة عربية تملك ان تعلن تأييدها الرسمي والعلني بدون الموقف الفلسطيني.

هذه الإدراكات والتصورات توصل صاحبها لحالة من الإحباط السياسي الذي قد يدفع للاستقالة بدلا من الإنتحار السياسي، ولا يريد ان يكتب لنفسه الفشل.

رابعا، تربط غرينبلات علاقات قويه مع نتانياهو ومن اكثر المؤيدين والداعمين للاستيطان، والدفع نحو الإعتراف بضمها لإسرائيل. فمن هذا المنظور لم تأت الاستقالة تحت ضغط لا من قبل الرئيس ترامب ومستشاره جاريد كوشنر، ولا من قبل الحكومة الإسرائيلية .

خامسا، هناك من يربط أستقالتة بالمردود المالي الذي يحصل عليه، وهو لا يزيد عن راتب سنوي مائة وثمانية الاف دولار لا تغطي تكاليف أسرته، وهذا مستبعد لحالة غرينبلات وعمله السابق، وعمل زوجته كطبيبه.

الملاحظة السادسة، مقارنة بمن سبقوه من مبعوثين للسلام كان أقلهم جهدا وتركز جهده على المشاركة الرئيسة في صياغة الصفقة ، فلم يقم بزيارات مكوكيه، ولم يتسن له لقاء الطرف الفلسطيني مما أفقده كثيرا من التوازن والحيادية والموضوعية وهي البعيده عنه وعن كل من سبقوه.

الملاحظة السابعة، تفسير الاستقالة من منظور من سيأتى بعده وهو بيركوفيتش عديم التجربة الذي درس في تل أبيب ونشأ في منزل يهودي أرثوذكسى، ولم يصل بعد إلى الثلاثين من عمره. وهذا التغيير قد يحمل رسالتين ألأولى رسالة طمأنة لإسرائيل بان مرحلة تنقيذ الصفقة لن تخرج عن الإلتزام بكل ما ترضاه وتقبل به إسرائيل. والرسالة الثانية وهيى ألأكثر أهمية الاستخفاف بالعملية السلمية وتقزيم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتأتي إشارة على خفض مستوى التمثيل ما يعني تخفيض مستوى التوقعات وان مهمة الإدارة ألأمريكية لن تذهب أكثر من الإعلان عن الصفقة، وتثبيت ما أتخذته من قرارات وسياسات.

يفترض في قضية وصراع بحجم القضية الفلسطينية وتشعباتها وتعقيداتها ان يكون الممثل للسلام بخبرته وسنه بحجم القضية. قلة الخبرة والتوجهات المسبقة للمبعوث الجديد رسالة واضحة للفلسطينيين والعرب ان هذه آخر مراحل الاهتمام ألأمريكى.

الملاحظة الثامنه، وهي ألأقل إحتمالا وهي أن تكون لديه بعض الملاحظات التي يريد ألأخذ بها لضمان تمرير الصفقة، وذلك بعد سماعه لآراء القيادات العربية ورفضها للذهاب احاديا في مواقفها من الصفقة.

والملاحظة التاسعة، قد ترتبط برغبة الإدارة الأمريكية وصهره جاريد كوشنر باحتكار كل العملية السلمية وربط الصفقة بهما، وهذا يتوافق والنزعات الفردية والذاتية لكل منهما، أو أن يكون غرينبلات أراد ان يتجاوز حدود الدور المرسوم له، وان دوره قد إنتهى عند مرحلة صياغة وإكمال الصفقة.

وأخيرا الملاحظة العاشرة، أن الإستقالة لن تؤثر بشكل حاسم على صفقة القرن والإعلان عنها. لكنها بلا شك قد أشارت إلى انهيار كل التوقعات بنجاحها، وفتحت الطريق أمام خيارات كثيره. فبعد وضع حد لإمكانية إحياء المسار التفاوضى، فالبديل تجدد خيار العنف والمواجهة المسلحة.

والمفارقة أنه بقدر ما قدم لإسرائيل من خدمات فقد وضعها أمام إشكاليات أمنية مستعصية على الحل، فلا ضم الضفة الغربية، ولا كل القرارات التي اتخذتها الإدارة ألأمريكية كفيلة بوضع نهاية للصراع، وبجلب ألأمن والبقاء لإسرائيل، ولن تكون كفيلة بشطب الشعب الفلسطينى وإزالته من على الخارطة السياسية والجغرافية والبشرية. من هذا المنظور تكون الإستقالة قد فتحت أبوابا جديده غير متوقعه، فبدلا من السلام العنف والتصعيد وديمومة الصراع.

*استاذ علوم سياسية -غزة