بطريقتها الملونة تتهم اوروبا نفسها بقليل من المآسي التي أحدثتها في افريقيا وآسيا. جرائم الايطاليين نُسبت للفاشية. جرائم الفرنسيين لا تُذكر في ثقافتهم تقريبا، وشعارهم الدائم هو «لا شأن لي». البريطانيون صرخوا «بقلب المافلية» لكونراد، الذي وصف الفظاعة البلجيكية. لكن الاوروبيين كسبوا في افريقيا منذ «تحريرها» التريليونات بوساطة الاقطاعية الفاسدة، وتنصلوا من التدمير المتواصل. وعندما احتاجوا لقوة العمل سمحوا لعبيد الماضي بالعمل عندهم وتمويل دول الرفاه. الاسرائيليون، الذين كبروا بالتزامن مع الكولونيالية الجديدة، صبغوا كل شيء باللون الابيض من كثرة الغربية المتنورة.
تؤثر الحرب السابقة على الحرب القادمة. بدلا من «نهاية العالم الآن» أوجدت هوليوود رامبو، وفي الوقت الذي يتعاطى فيه الكثيرون من المعاقين في فيتنام السموم، دخلت الولايات المتحدة في 25 تشرين الاول 1983 إلى غرينادا في عملية «غضب متسرع» لمواجهة الشيوعية وانقاذ الحرية، أي، الزعيم السابق. وقد شارك في عملية الاحتلال 5 آلاف جندي، 500 منهم حصلوا على الميداليات. لم يعرف جموع المحتفلين في الشوارع أين هي غرينادا وما هو حجمها (91 ألف نسمة في حينه)، ولم يعرفوا ايضا أن 120 من جنودهم الفاشلين قد قُتلوا. وفي مقابل عودة رامبو نشأ تصور مهم أكثر للرأسمالية الجديدة: جي. آر («دالاس»)، حقير محبوب؛ عندها ظهر اهتمام آخر في التلفاز الأميركي. واوروبا نددت باحتلال الجزيرة الصغيرة.
بين احتلال غرينادا وبين قصف العراق في بداية 1991 استعد الغرب للمرحلة القادمة من الرأسمالية الجديدة. «انتصر العالم الحر، ماتت الشيوعية، يمكن امتصاص كل شيء وهكذا تدمر العالم العربي، وتكفي مراجعة الصحف في خريف 1990 لرؤية كيف بني التوقع لحرب العراق، التي نشبت في منتصف كانون الثاني 1991. احتفلت الضحية الاسرائيلية بسبب بضعة صواريخ؛ «كارثة في الغرفة الآمنة»، هذا ما قاله البروفيسور موشيه تسوكرمان في كتابه الممتاز. بالمناسبة، لقد باع الغرب الغاز لصدام حسين كي يخنق الايرانيين، وبعض شبابنا الجيدين باعوا السلاح في افريقيا، وحصلوا هناك على الماس. وغال هيرش هو كلب صغير مقارنة بهم.
حظي كل اخلال بالعقوبات، التي فرضها الغرب على العراق المحطم، بالتغطية الاعلامية. أما موت الاطفال فلم تتم تغطيته. في مقابل تلك السنوات لـ «نهاية التاريخ» ولدت في الغرب ايضا «ثقافة الكارثة»: موت جماعي بعيد. وكأبطال للقصة استخدموا تعبير «سلاح كيميائي» في العراق، واحتفلنا باحتلاله الكامل الذي أدى الى إسقاط صدام. نحن جزء من «العالم الحر». الموت في الخارج والمُعطِّر في البيت.
من يفكر اليوم، في ظل التراجيديا اليومية في العراق أو في سورية، بمواقفه الخاصة في حينه في موضوع «الحرية»؟ من يفكر بليبيا؟ من الذي احتلها؟ لماذا؟ من يهتم؟ كم هو سهل اتهام الضحايا الآن، الصحراء تهدد اوروبا: الجوع، الفقر، الاولاد في أحضان أمهاتهم يصلون الى شواطئها أو يغرقون في الطريق. تذكر الغرب «المشكلة». الكثير من الغرباء في غير اماكنهم. الاموال التي تجمعت ليست لهم. والموتى رائحتهم نتنة. وقد كتب بريخت: «عند الاغنياء ما يكفي من القوة لخلق الفقر، لكن ليست لهم القوة لتحمله».
نحن نسارع الى الانتماء الى «الغرب الحر»، ونفرح أكثر حينما تضع اوروبا اللاجئين في المعسكرات. وحين تصرخ اوروبا «لاجئون أموات» نقول إننا شعب اللجوء، وإننا حساسون جدا لرائحة الجثث. لذلك سنواصل مطاردة اللاجئين الافارقة عندنا على طريقتنا الخاصة، بختم كافكا الخاص بنا، أو كما كُتب في التوراة: «ثلاث صفات لهذه الأمة: الرحمة والخجل ورد الجميل».
عن «هآرتس»