قراءة في اتفاق سوتشي الأخير

حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

من الطبيعي أن يلتقي كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان لوضع ترتيبات المنطقة الآمنة في الوقت الذي غادرت فيه الولايات المتحدة شمال شرقي سورية صوب الحدود العراقية.
لقاء سوتشي هذا جاء لاعتبارين مهمين، الأول يستهدف التجاوب السريع في سد فراغ غياب الوجود العسكري الأميركي عن سورية، والثاني يتعلق بترسيخ المنطقة الآمنة في الشمال والتأكد من تبييضها من الأكراد الذين شكلوا ضغطاً على أنقرة ودمشق خلال فترة النزاع السوري.
الاتفاق الذي وُصف بالتاريخي بين بوتين وأردوغان حقق مصلحة تركيا والحكومة السورية، وكذلك مصلحة روسيا التي بدت أنها اللاعب الأوفر حظاً في إدارة النزاع السوري، وأما أنقرة فقد اطمأنت إلى أن اتفاقها مع موسكو سيعني بداية تداعي الحلم الكردي حول مسائل الاستقلال والحكم الذاتي.
في تفاصيل الاتفاق ثمة مهلة لانسحاب الأكراد من منبج وتل رفعت وعين العرب "كوباني" وقبلها انسحبوا من رأس العين وتل أبيض في ضوء قرار وقف إطلاق النار الذي جاء بعد مباحثات أجراها نائب الرئيس الأميركي مايك بينس مع أردوغان في أنقرة.
الحديث يدور عن انسحاب قوات سورية الديمقراطية ومختلف الفصائل الكردية بأسلحتهم إلى عمق من 30 إلى 32 كيلومتراً داخل الأراضي السورية جنوباً، وعلى ما يبدو أن الاتفاق يشمل المدنيين من الأكراد بهدف إقامة المنطقة الآمنة التي تطالب أنقرة بأن يصل طولها إلى 440 كيلومتراً على امتداد حدودها مع سورية.
لم يأت اتفاق سوتشي على مصير القوات التركية في سورية، حيث أن تلك القوات موجودة حالياً تحت ما يسمى عملية "نبع السلام" في شمال وسط سورية –رأس العين وتل أبيض- وغربها باتجاه عين العرب، ويبدو أن الوجود التركي هناك يهدف إلى التأكد التام من أن هذه المناطق خالية من الوجود الكردي.
باقي المناطق الحدودية ستدخلها قوات شرطية عسكرية روسية وحرس الحدود السوري، وهي تقع شمال شرقي مدينة تل أبيض الحدودية وغربها أيضاً، وفي هذه المناطق المحددة سينشئ الجيش السوري 15 نقطة مراقبة على طول حدوده مع تركيا.
كذلك بعيداً إلى الجنوب بمسافة حوالي 10 كيلومترات عن نقاط المراقبة السورية، سيتم تسيير دوريات عسكرية روسية- وتركية مشتركة في حدود المنطقة الآمنة غير الخاضعة لجغرافية "نبع السلام"، ويبدو أن مهمة هذه الدوريات عدا عن ضبط الحدود، تتعلق باستكمال ترتيبات المنطقة الآمنة.
الاستنفار التركي في سورية ووقف إطلاق النار من جانبه مرده إلى الاطمئنان بأن الأكراد انسحبوا بالفعل إلى مناطق آمنة في العمق السوري، وحينذاك ثمة دواع لهذا الوجود الذي يستهدف توطين اللاجئين السوريين المقيمين داخل تركيا في المنطقة الآمنة.
بهذا الاتفاق تكون الحكومة السورية قد استعادت مناطق واسعة من الأكراد دون اللجوء إلى إطلاق طلقة نار واحدة ضدهم أو استعدائهم، وقد يُسهّل عليها شملهم تحت مظلتها باعتبارها ملاذهم الآمن من الأتراك، ذلك أن الاتفاق تحدث صراحةً عن عودة الجيش السوري والقوات الروسية في المناطق الحدودية إلى العمق السوري، وترك الأكراد يواجهون مصيرهم مع الأتراك إذا لم ينسحبوا من هناك.
من المهم قراءة ما جاء في اتفاق بوتين- أردوغان، إذ تحدث الأول عن وحدة الأراضي السورية وسلامتها ووافقه الرئيس التركي في ذلك، مقابل أن يدعم نظيره الروسي مسألة حق تركيا في حماية أمنها القومي وهذا ما جرى بالفعل.
وتحدثا أيضاً عن أهمية اتفاق أضنة والالتزام به من حيث أن لأنقرة كل الحق في حماية أمنها والتوغل داخل الأراضي السورية بعمق 5 كيلومترات إذا لاحظت أن هناك ما يهدد أمنها القومي، ويفهم من التأكيد على اتفاق أضنة أنه ما يزال ساري المفعول ويعطي الحق لتركيا في المستقبل اتخاذ خطوات أحادية الجانب لحماية نفسها من أي مخاطر تقع في سورية.
مع ذلك فإن بوتين كان حريصاً على التأكيد مرةً أخرى بضرورة إنهاء الوجود الأجنبي غير الشرعي عن سورية، فقد خليت الساحة أمامه من الولايات المتحدة الأميركية، وهو يدرك أن تركيا تقيم هناك بـ"تأشيرة" دخول ما تزال سارية المفعول حتى تزول المخاطر الأمنية.
ويبدو أن الحكومة السورية طرف في اتفاق سوتشي لكنها لم تدع إلى الاجتماع لأن ذلك قد يفسر على أنها تُشرّع العدوان التركي على أراضيها، لكنها تجد فيه مصلحة لاختصار زمن النزاع السوري كونه لم يعد أمامها من خصم حقيقي سوى المعارضة المعتدلة.
تركيا بهذا الاتفاق وإذا انسحب الأكراد ولم يعد لهم وجود في شمال سورية، تكون قد حققت جميع أهدافها من إصرارها على عدوان "نبع السلام"، وقد تخرج منه رابحة مع روسيا والولايات المتحدة الأميركية وحتى مع الحكومة السورية.
وقد تحمل ثمرة هذا الاتفاق التاريخي بشائر خير على مستقبل المسار السياسي في سورية، خصوصاً وأن تركيا لاعب مهم في هذه المعادلة باعتبارها أكبر داعمي المعارضة السورية المعتدلة وصوتها مسموع، كما هو حال عدوانها الذي ينفذ بمساعدة فصائل المعارضة.
والحق أن الحكومة السورية تجاوزت تماماً الخطر الذي يهدد حياتها ومستقبلها السياسي، ويلحظ أنها مسترخية هذه المرة أكثر من أي وقت مضى، ولم تعد تلك الأحمال على ظهرها، وبالتالي لا يهمها توقيت سريان عجلة المسار السياسي طالما أنها تريد الخروج منتصرة من معادلة النزاع بدون أي تكاليف إضافية.