رمى سعد الحريري استقالته في وجه العهد الرئاسي و"حزب الله".
وخرجت استقالة الحريري، بتوقيتها ومضامينها، عن مجمل السياق الذي وضعه شركاء التسوية الرئاسية، الذين فاجأهم خروج الحريري عن "النصيحة" التي بلغت حد التهديد بعدم استقالة الحكومة. وبهذا المعنى وجهت الاستقالة ضربه، قاصمة للتسوية الرئاسية، وتخطت الخط الأحمر الذي رسمه الأمين العام لـ"حزب الله" حسن الله: لا لاستقالة الحكومة.
الاستقالة مثلت ضربة كبيرة لـ"حزب الله" الذي انخرط أكثر من أي وقت مضى في شؤون الحكومة ويحرص على تفادي انهيار اقتصادي في لبنان، سيؤثر على بيئته الشيعية، المنهكة كثيرا بفعل العقوبات الأميركية على طهران.
وظهرت استقالة الرئيس سعد الحريري شبكة التحالفات القديمة، التي تقوم على حلف يضم "حزب الله" والتيار الوطني الحر وحركة أمل من جهة، وحلف آخر يضم القوات اللبنانية، والحريري والنائب السابق وليد جنبلاط.
إذا فعلها الحريري واستقال، كثيرون توقعوا أن يخاف، والخوف ليس فقط من أن يدفعه "حزب الله" و"التيار الوطني" ثمن إطاحته بالتسوية الرئاسية، بل الخوف أيضاً من أن يكون لقراره ثمن باهظ يدفعه البلد. فهو لا يعرف بالضبط ما سيجري بعد الاستقالة: حكومة نظيفة تلبي طموحات الشعب، أم فوضى تفتعلها القوى النافذة؟ ولكن، في أي حال، سحب الحريري يده من الأزمة، بعد أن وصل إلى طريق مسدود لحلها.
ويعرف الحريري جيدا أن مسألة إعادة تكليفه ليست مضمونة، ولهذا لجأ إلى تحريك "شارع تيار المستقبل: في أكثر من منطقة في محاولة لتسلق كتفي الانتفاضة الشعبية، وتحويل الحريري منقذا للجمهورية الثالثة.
أوقف الحريري باستقالته الانزلاق بقوة نحو مواجهة تشعل حربا أهلية جديدة لا شيء مثلها من قبل وربما من بعد، لأن الفارق الزمني وتغير القواعد والقوى خصوصا بعد انضمام "حزب الله" إلى دائرة القوى الإقليمية. قد يحول دون انعقاد ما يشبه مؤتمري لوزان والطائف من جديد. أخطر ما يحصل حاليا ان لبنان لم يعد كما من قبل مميزا في حصانته او رعايته. التحولات والمواجهات والحروب في الإقليم، جعلت الدول الأوروبية والخليجية غير منخرطة بسلامة لبنان، كما كان دارجا. توجد حالة دولية سلبية تنتشر حاليا في ظلال "العولمة" تقوم على ترك الأزمات الطاحنة في الدول على حالها.
ويبدو أن الحريري ليس متهيبا من خطوة استقالته، بل على العكس، ينظر لها أنها في موقعها كصدمة يجب اعتبارها إيجابية، ومن شأنها أن تؤدي إلى تأليف حكومة إنقاذية يحتاجها البلد أكثر من أي وقت مضى، فضلا عن أن هذه الاستقالة أمنت له احتضانا شعبيا متجددا حوله، سعى كثيرون إلى مصادرته، خصوصا في شارعه السني.
ويتحدث الحريري صراحة أمام زواره، عن أن الصيغة الحكومية السابقة، لم تعد تصلح لمقاربة الأزمة الداخلية الاقتصادية والسياسية وتعقيداتها في لبنان، ولا يخفى في هذا الإطار شكواه من الوزير الملك جبران باسيل.
أكثر ما يؤرق السلطة الحاكمة من هذه الانتفاضة غير المسبوقة في شعاراتها ووحدتها، أنها تحمل في طياتها أفقا تغييريا في نظام السمسرة والمحاصصة والتركيبة الطائفية، وهذا ما جعلها تهرول نحو إعادة إنتاج القلق الهوياتي، الذي شكل أحد أبرز الأسلحة التي استخدمها النظام للتصويب على الانتفاضة.
وعكس "كشف الحساب" الذي قدمه الرئيس ميشيل عون بمناسبة نصف الولاية الرئاسية، في ملامحه العامة إلى حدود بعيدة مدى التأزم الكبير الذي يحاصر الرئاسة والدولة والمؤسسات، خصوصاً في ظل استقالة الحكومة والتهيؤ لانطلاق الاتصالات والاستشارات لتكليف رئيس وزراء جديد، ودعا عون إلى تشكيل حكومة منسجمة لا تعرقلها الصراعات، محذرا من أن لبنان على مفترق مفصلي.
فقد وضعت انتفاضة 17 تشرين الأول الرئيس عون، وصهره وزير الخارجية جبران باسيل في مأزق خطير، فالرجلان بالغا في صياغة وعي مسيحي حول الرئيس الماروني القوي، وحقوق المسحيين، والعهد الرئاسي، غير أن وصول عون للرئاسة، يكشف عن فضيحة على مستوى الإنجاز الفعلي الذي يكاد يقترب من الصفر، ثم أتت الانتفاضة الشعبية، التي كشفت بالملموس انهيار عمارة كاملة من خطاب الشعبوية السياسية الذي اعتمداه. إنه انهيار مريع في صورة العونية عن نفسها، تجلت أقسى صوره في تحول بطلها، جبران باسيل، إلى العدو الشعبي الأول في الشارع.
ولا تزال المشاورات في الكواليس بين بيت الوسط وعين التينة وقصر بعبدا، تدور حول التكليف والتأليف، وهوية الحكومة المقبلة، وبيانها الحكومي، ولا يزال سعد الحريري الاسم الذي يتقدم كل الصيغ الحكومية.
ولكن لن يكون من السهل في ضوء المعطيات الحالية تشكيل حكومة جديدة، رغم التداول بسيناريوهات عديدة، منها ما يأخذ بمطالبة قسم كبير من الرأي العام بحكومة انتقالية من التكنوقراط لإنقاذ الوضع المالي والتحضير لانتخابات نيابية، ومنها بحكومة مزيج من التكنوقراط والسياسيين غير المتصدرين للمشهد، ولكن "حزب الله" يخشى من مثل هذه الحكومة، وهو سيدافع بقوة عن بقاء جبران باسيل في الحكومة المقبلة، لضمان مصالحه.