مسح العنف والمسؤولية الاجتماعية

ريما كتانة نزال.jpg
حجم الخط

ريما كتانة نزال

تعاكَس الانطباع المُسبق وتوقعات المتابعين لقضايا العنف وتحولاته في المجتمع الفلسطيني، مع نتائج المسْح الذي أجراه الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 2019، المشهود له بالمهنية والمثابرة، حيث أظهر المسح الجديد انخفاضاً عاماً في نسبة العنف من 37% عام 2011 إلى 29% عام 2019. واعتبر الجهاز أنه وبالرغم من تسجيل الانخفاض ثماني نقاط عن المسح السابق، إلا أنه ما زال يُسجِّل معدلات مرتفعة، وينظر للمؤشرات بخطورة تتطلب الوقوف مليّاً أمامها لمعالجتها، رامياً الكرة في ملعب الجهات المسؤولة، والجهاز محقٌ تماماً فيما ذهب إليه.
أظهر المسح استمرار عنف الاحتلال الاستعماري كأحد العوامل والمصادر الثابتة المتدخلة في تزايد العنف الاجتماعي؛ من خلال إفادة 60% من النساء المتزوجات أو من سبق لهن الزواج؛ تعرضهن أو أحد أفراد اسرهن لعنف قوات الاحتلال، بواقع 53% في الضفة الغربية و70% في قطاع غزة، إنه الباب الدوّار الواصل بين العنف الاجتماعي والقمع والعنف القومي.
الانطباع المتولد لدى البعض وخاصة النساء لم ينشأ من فراغ، حيث تابع المجتمع ارتفاع ظاهرة قتل النساء ما بين عام 2005 وعام 2019 بشكل متواتر، من خمس حوادث قتل على خلفية الشرف إلى تسع وعشرين حالة في عام 2018، بينما تم توثيق عشرين حالة لغاية تاريخه في عام 2019.
وتابع المجتمع حوادث مؤرِّقة في العام الحالي لا يمكن لها مغادرة الذاكرة الجمعية، منها اغتصاب الضحية  المصابة بمتلازمة «داون» من محافظة الخليل، وضرب «إسراء غريب» بوحشية أفضى بها إلى الموت في قضية أثارت المجتمع بما حولها إلى قضية رأي عام دولي، وحادثة ضرب من محافظة جنين بسبب خروجها للبحث عن عَمَل، ما أدّى إلى تَهَتُّك عظام قدميها.
وإذا ما أضفنا للحوادث الثلاث المُشار لها أعلاه، التي حركت فداحتها الإعلام، فإن حادثة قتل الشاب «فراس الشايب» في نابلس عرضا، على خلفية ما رافق ما اصطلح على تسميته إزالة التعديات على الأملاك العامة، جميع هذه الحوادث وغيرها من مظاهر عنف وفلتان، وتزايد إشكالية أخذ القانون باليد واستخدام العنف والسلاح في حل الخلافات، وارتفاع صادم للعنف الإلكتروني في مجتمع تقليدي مُحافظ شكلاً، بينما يختفي البعض خلف أصابعه، كل ذلك ساهم في تفاقم البيئة العنفية وتوفيرها مناخات داعمة لزيادة واستمرار العنف.
لقد وفر المسح قاعدة بيانات تفصيلية حول العنف الممارس ضد النساء والشباب والأطفال والمسنين وأصحاب الإعاقة، وكذلك أشكال العنف النفسي والجسدي والجنسي والاقتصادي والاجتماعي والالكتروني، في الأماكن والفضاء والحيّز العام، في الشارع والمؤسسة التعليمية وأماكن التسوق والمواصلات وفي المنازل، من مختلف المراحل العمرية، الطفولة والشباب والشيخوخة، تتضح صورة وقوع المجتمع تحت وطأته، لا ينجو أحد من براثنه، بشكل مباشر أو غير مباشر.
مع ظهور نتائج المسح تتوقف مسؤولية الجهاز المركزي للإحصاء لتبدأ مسؤولية أصحاب الواجب، مسؤولية المؤسسات الحكومية الرسمية والأهلية والمجتمع المدني، مسؤولية مهنية وأخلاقية عن وضع الخطط الضامنة لوقف التدهور، والتصدي للظاهرة وحفظ وحماية أمن المجتمع وسلامته. المسؤولية الرسمية أعظم وأهم من مسؤولية الجميع باعتبارها المسؤولة عن نفاذ العقد الاجتماعي. 
النسب والأرقام التي أتى عليها المسح تتطلب التعمق بمفاعيلها وتحليلها، وربما أشير إلى ما أظهره المسح من ارتفاع نسبة العارفين بالمؤسسات الفاعلة على صعيد مناهضة العنف بنسبة 40% قياساً بما جاء في مسح عام 2011، لكن الصادم في المؤشرات اقتصار نسبة توجه الضحايا لطلب المساعدة على 2% من المعنفات في الضفة الغربية و1% منهن في قطاع غزة! وهو ما يرتب تدخلاً وسياسات واجراءات ومسؤوليات من مستويات مختلفة، تتصل بالتوعية والحثّ على طلب المساعدة وطلب الحماية ضمن مفهوم المواطنة المتساوية وعلاقة الأفراد بقوانين الدولة.
ما زالت الثقافة العامة تعتبر أن قضايا العائلة الخاصة تندرج في نطاق الملكية الخاصة، وهو ما تكرس بفعل القمع التاريخي للنساء. لكن لا بد من التنويه إلى أننا قد قطعنا شوطاً مهماً على صعيد كشف العنف الاجتماعي والعنف ضد المرأة، ويرجع الفضل فيه إلى المسوحات من جانب، وإلى ما قامت به المؤسسات النسوية والحقوقية في مشوار إماطة اللثام عن ظاهرة العنف بجميع أشكاله، ما ساهم في الارتقاء بالمسؤولية الاجتماعية، ووضع موضوع العنف الاجتماعي والأسري على طاولة البحث، وإخضاعه للنقاش بعد إحاطته طويلاً لثقافة الصمت والخوف والإسكات.