متى، وكيف نشأت الأمة العربية؟ (1من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

لو طرحنا سؤال "متى تكونت الأمة العربية؟".. سنحصل على إجابات متعددة ومتباينة، منها مثلاً: نشأت الأمة العربية مع خلق آدم، فالعرب هم أصل البشر.. أو نشأت بعد طوفان نوح، فالعرب هم أحفاد سام بن نوح.. أو نشأت من نسل يعرب بن عدنان، أو قحطان.. أو نشأت بداية في اليمن قبل الإسلام بقرون.. أو نشأت مع الإسلام وبه.. أو تكونت حديثاً مع أطروحات ساطع الحصري، ودعاة القومية العربية. 
أي من الإجابات السابقة هي الصحيحة؟
لنتفق بدايةً على أنّ الأمة العربية واحدة من بين الأمم ذات الأصالة والعراقة، التي تضرب جذورها في التاريخ، والتي امتلكت من الخصائص والسمات بما يميزها كأمة لها شخصيتها المنفردة، ومن المقومات ما يمنحها هويتها القومية.
يُقال: إنّ أصل العرب من الجزيرة العربية، ولكن ماذا بشأن اليمن، والعراق، وبلاد الشام، ووادي النيل، والمغرب العربي.. فهؤلاء يشكلون نحو 95% مما يُعرف حالياً بالأمة العربية.. هل كان هؤلاء عرباً أصلاً؟ أم تعربوا فيما بعد؟ وإذا كان الإسلام قد وحّـد العرب، وشكّل بنيتهم الاجتماعية والثقافية واللغوية.. فلماذا لم تتعرب بلاد فارس، وتركيا، وسائر البلاد التي دخلت في الإسلام؟
سنترك الحديث عن اللغة العربية لمقال قادم، لأهمية هذا البعد، ولنركز على الأصول التاريخية للعرب، وظروف نشأتهم، وصيرورة تكونهم كأمة.
قبل الألف الثانية قبل الميلاد كانت الجزيرة العربية (باستثناء اليمن) شبه خالية من السكان، تقطنها قبائل صغيرة متناثرة هنا وهناك.. وحتى القرون الأولى بعد الميلاد، بسبب صعوبة العيش وقسوة المناخ وشح الموارد، ظل التطور الاجتماعي وسط صحراء الجزيرة العربية بطيئاً للغاية.. لذلك، وفي ظل هذه الظروف الصعبة، لم تنشأ ممالك، ولا حضارة، ولم تتكون أمة، بل نشأت قبائل، وكانت "القبيلة" الصيغة الأكثر مناسبة لتلك الظروف المجافية والقاسية، إذ تصبح القبيلة ضرورية لكل فرد لتأمين حمايته وضمان بقائه، وهذا يقوي الأواصر والعلاقات داخل القبيلة، التي ظلت لآلاف السنين مرتبطة بهذه البنية الاجتماعية، وبنمط الحياة الرعوي.
قسّم سيد القمني تاريخ المجتمع العربي في جزيرة العرب إلى عصرين: الجاهلي الأول والجاهلي الثاني. موضحاً أنه في العصور الجاهلية القديمة ساد نمط "القبيلة المتنقلة"، التي تظل في حركة دؤوبة بحثاً عن المراعي وعيون الماء، ورأى أن الإنسان البدوي كان في تلك الحقبة يعيش عالة على الطبيعة؛ فهو لا ينتج، إنما يسعى وراء منتجات الطبيعة النادرة والشحيحة في الصحارى القفار، ليشرب من مائها ويتغذى على ما تجود به من نباتات وحيوانات.
ويضيف القمني: في مثل هذه البيئة، حيث النادر الشحيح من الخيرات الطبيعية، عاش السكان صراعاً قبلياً دائباً لا يهدأ ولا يتوقف على الخيرات الضنينة، حتى كان البدوي يذبح الآخر من أجل حفنة تمرات، أو لقاء بئر ماء، أي أن الصراع الاجتماعي كان آنذاك صراع بقاء (حياة أو موت)، فهو صراع صفري بين اثنين، يفوز أحدهما ويخسر الآخر، وفي مجتمع كهذا لا يكون ثمة معنى للحديث عن الفضائل كالأمانة والنخوة والمروءة والشرف، لأن هذه المعاني ستودي بصاحبها إلى الفناء جوعاً وعطشاً أو قتلاً.
في العصر الجاهلي الثاني، تحولت حياة العربي وتغيرت بصورة كبيرة؛ حيث تركزت حياته حول التجارة، إذ مثّلت التجارة في جزيرة العرب نقطة تحول مفصلية، نقلتها إلى المجتمع المستقر الأقرب إلى المدنية، مدفوعة بتأثيرات أحداث عالمية كبرى، أثرت على جزيرة العرب ونقلتها من عصر إلى عصر، ومن توحش إلى بشرية، ومن زمن الصيد وجني الثمار إلى زمن الاستقرار وإنشاء المدن والعمل بالتجارة.
كانت قريش كبرى القبائل، وقد أدركت حينها أن أفضل طريقة للحفاظ على أمن تجارتها، وضمان طرقها من كل سوء، هو إشراك القبائل الأخرى في تجارتها، ومنْح آخرين أموالاً مقابل حراستهم القوافل على الطريق التجاري الطويل، بدلاً من نهبها. وأنّ سيولة وأمن هذا الطريق سيكون ضامناً لعدم احتلاله من قبل إحدى الإمبراطوريتين.
ثمة عامل آخر بالغ الأهمية لعب دوراً محورياً في التحولات التي طرأت على وعي وسلوك العربي في ذلك الزمان، ومن خلاله حقق مكاسب عديدة؛ ألا وهو عامل الفضيلة والأمانة وما ينشأ عنهما من معانٍ؛ حيث كان كل تاجر حريصاً على أن يعرفه الآخرون بأنه (الصادق الأمين) لضمان تجارته وديمومتها.
وتلك الفضائل لم تكن موجودة في العصر الجاهلي الأول، هذا ناهيك عن فضائل متلازمة أخرى مثل كرم الضيافة، وهي فضيلة اقتضتها ظروف الصحراء القاسية، حتى لا تهلك القوافل، لأن نجاتها تعود بالفوائد على الكل.
وثمة سبب آخر لنشوء فضيلتي الكرم والمروءة عند العرب الأوائل؛ فبيئة الصحراء الجافة، والهدوء والسكون الذي يغلب على لياليها وأيامها، وعدم وجود وسائل تسلية، تطلبت البحث عن أي مخرج من هذه الحياة الكئيبة المملة؛ فالبدوي كان يفرح بمرور أي ضيف، لأنه سيخرجه من حياته الرتيبة، ويمنحه بعض السلوى.. وفي المقابل هذا الضيف بحاجة للأمان والراحة، فيتبادلان المصلحة، فهو لن يغدر بمضيفه، ومضيفه سيحسن استقباله.
ويضيف القمني: المهم، أنه مع هذه التحولات (الأخلاقية) في الجزيرة بدأ ظهور الشعور القومي بين القبائل، نتيجة التقائهم في الأسواق، والتقاء مصالحهم، ثم تقارب لغاتهم المختلفة للتفاهم، حتى صاروا يتفاهمون بلغة العاصمة التجارية "مكة"، فكان نمو وتطور الوعي الجمعي سبباً في بزوغ شعور قومي دفع العرب حينها لاختيار أنفسهم شعباً واحداً، له لغة واحدة وأب واحد، هو يعرب بن عدنان.
كما أن تأمين القوافل التجارية التي كانت تنـزل في مكة، وتوفير ما يلزمها من خدمات لوجستية يتطلب أيضاً توفير مناخ من الحريات الدينية يتيح لكل قافلة أو قبيلة تأتي مكة أن تمارس طقوسها بأريحية، وهذا يفسر التعددية في الآلهة والأصنام في محيط الكعبة، وتسامح قريش إزائها. وفي هذا طبعاً تدعيم لمكانة قريش (أهل مكة) بين بقية القبائل.
متى، وكيف صار ممكناً لنا القول بوجود أمة عربية؟ موضوع المقال القادم.