ما يصلح للناصرة يصلح لنابلس، أيضاً..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

حسن خضر

يمكن لحادثة جامعة النجاح أن تكون مناسَبةً، ومناسِبةً، لتبني فكرة ونقيضها. والدليل: كلام الشخص الذي أوقف العرض المسرحي بكلمات لا تليق بالمكان، والمناسبة، ولا بالوظيفة التي يشغلها. ففي تصريحات لاحقة قال إنه نصير للحريات بشكل مطلق، ولكن ما يصلح في الناصرة قد لا يصلح، بالضرورة، في نابلس.
ولا أجد ما يبرر التغاضي عن حقيقة أن المطلق والنسبي لا يلتقيان. فنصرة الحريات بشكل مطلق لا تستقيم مع الكلام عمّا يصح هنا ولا يصح هناك. هذا على الصعيد الدلالي، والمنطقي المحض. ولكن التدليل على أمر كهذا بلا معنى تقريباً ما لم يتموضع في سياق أعرض، وما لم يصبح وسيلة إيضاح لشيء آخر أكثر شيوعاً وعمومية، وأهمية، بالتأكيد.
ولا أجد سياقاً أعرض خارج الكلام عمّا يوصف في أدبيات مختلفة بما بعد الحقيقة. ولا يعنينا تاريخ المصطلح بقدر بنيته وعمارته المنطقية التي لا تستقيم دون نسبية من نوع ما، بصرف النظر عمّا تنطوي عليه من تناقض الدلالة والمنطق. بمعنى أكثر شيوعاً وقابلية للتعميم: لم تعد لسلامة الدلالة والمنطق أهمية في الزمن الحاضر.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد:
 فلنقل إن انتهاك سلامة الدلالة واستقامة المنطق، وثيق الصلة بتاريخ الإنسان على الأرض، ولكن الكلام عن الزمن الحاضر بوصفه زمن ما بعد الحقيقة، بامتياز، يستمد مسوّغاته ومبرراته مما طرأ من تغيّرات سلوكية، ونفسية، واجتماعية نتيجة تطوّرات تكنولوجية غير مسبوقة في تاريخ الإنسان، ونتيجة حيازة الأقوياء، لأوّل مرّة في تاريخ الإنسان، لتقنيات وقدرات تقنية ورقابية تمكنهم من توليد المعلومات، والتحكّم في مصادرها، وإنتاج وإعادة إنتاج المعرفة، وبالتالي الذائقة، وأنماط السلوك.
وفي ما تقدّم من سياق، لا تحتل حادثة جامعة النجاح مكانة تذكر، إذا وضعنا في الذهن أن عدد سكّان الأرض يقترب الآن من عدد الثمانية مليارات. ومع ذلك، تبدو هذه النتيجة غامضة وملتبسة، ولن تتجلى دون الكلام عن الخصائص الاجتماعية والسياسية لعالم ما بعد الحقيقة.
فهذا العالم، بعد عصور التنوير، والكولونيالية، والقوميات، والثورات، وحروب الأيديولوجيات الكبرى، هو عصر عودة المكبوت الديني والقومي في الغرب، الذي يتجلى الآن في صعود غير مسبوق للشعبويات، وقد لا تتأخر الفاشية كثيراً. فعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وديمقراطياته الليبرالية، وانقسامه وتقسيمه بين معسكرين، لم يعد قائماً في جانب كبير منه، وما تبقى منه يتآكل بسرعة فائقة.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد:
لا يصدق هذا على العالم العربي إلا بقدر محدود. فهذا العالم يعيش منذ عقود طويلة ودامية آخر حروب الأيديولوجيات الكبرى، التي يمثلها الإسلام السياسي، قبل هزيمته النهائية، وتآكل مركزية خطاب الدين في بنية الدولة والمجتمع. وفي هذا العالم تعيش دولة الاستبداد الشرقي، منذ عقود طويلة ودامية، آخر حروبها قبل هزيمة تاريخية.
لذا، لا يبدو من قبيل المصادفة أن يحن الإسلام السياسي إلى زمن الحرب الباردة المفقود، وأن يتوحّش في آخر تجلياته الداعشية، ولا من قبيل المصادفة أن تتوحّش دولة الاستبداد الآسيوي وراء قناعها الأسدي، وفي آخر حروبها الكبرى، ولا من قبيل المصادفة أن تراهن دولة الاستبداد الآسيوي، وراء أقنعة مختلفة، على الشعبويات الأوروبية الصاعدة، وحتى على إسرائيل، وأن تقود الثورة المضادة، وتلوّح بورقة الحرب الأهلية، في آخر حروب البقاء.
وأخشى أن ثورة من طراز الثورة الفرنسية، وطالما كل شيء يعود إلى أصله، هي التي ستحسم كل هذه الحروب، وتفتح للإنسان في أكثر بقعة على كوكب الأرض ظلاماً وظلامية باباً للخروج. على أي حال، هذه مسألة شائكة، في الواقع. ويكفي الكلام عن وجود اتجاهين مختلفين ما بين صعود للشعبويات في الغرب، ورهان الثورة المضادة في العالم العربي عليها، وبين خواتيم حروب، ونهايات تواريخ ومركزيات وأزمنة، وما يلوح من أبواب مُحتملة للخروج.
وطالما ابتعدنا كثيراً، فقد اقتربنا أكثر. وصلنا، حتى الآن، إلى صلة حادثة في جامعة النجاح بعالم ما بعد الحقيقة، وصلة عالم ما بعد الحقيقة، هذا، بتحوّلات غير مسبوقة في تاريخ الإنسان، وصلة التحوّلات بوصول حروب ومركزيات في العالم العربي إلى خواتيمها، وصعود الشعبويات، والثورة المضادة.
وعلى خلفية كهذه، ثمة ما يبرر القول إن حادثة جامعة النجاح لن تكون مفهومة، ولن تُفهم صلتها بعالم ما بعد الحقيقة، إلا بوصفها جزءاً من الثورة المضادة. ولن يتجلى معنى الثورة المضادة بكل مركباتها الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والأيديولوجية، كظاهرة في نابلس، أو حتى في فلسطين، بل كظاهرة تجتاح العالم العربي، حتى الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي استنكف عن وصف حنين الشعوب العربية إلى الحرية منذ ثمانية أعوام من المد والجزر بالربيع، نطق بلسان الثورة المضادة.
لذا، يُحس الفلسطينيون، نساء ورجالاً، الذين وجدوا في حادثة جامعة النجاح ما يثير الفزع على مستقبل الحرية في هذه البلاد، صنعاً إذا فكّروا في حقيقة أن ما يُثير الفزع، هنا، لا ينفصل ولا يستقل عمّا يثير الفزع في كل مكان آخر من العالم العربي. فالمجابهة واحدة، وقوى الثورة المضادة واحدة، وما يصلح للناصرة يصلح لنابلس، وكل مكان آخر، أيضاً.
أخيراً، أضم صوتي للموقعين على البيان الصادر عن المؤسسات الثقافية والنسوية والحقوقية والفنانين المستقلين تضامناً مع عشتار. هؤلاء مَنْ يستحقون الثناء.