بريطانيا تغادر القطار الأوروبي

عبير بشير.jpg
حجم الخط

عبير بشير

يبدو أن الناخب البريطاني كان يضع مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل أي شيء آخر في الانتخابات النيابية، الذي حقق جونسون وحزب المحافظين، فيها انتصاراً كاسحاً، وكان شعارهم فيها «دعونا ننته من بريكست».
وبدت الانتخابات وكأنها استفتاء جديد على توديع القارة الأوروبية بمشكلاتها وأزماتها : قضايا المهاجرين، والعلاقة الاقتصادية المختلة بين دول الشمال والغرب النشيطة اقتصادياً.
وتمكن جونسون، من إحراز انتصار مدوٍ لم يحققه حزب المحافظين منذ سنوات مارغريت ثاتشر، واستطاع  ببراعة الالتفاف على  الأوصاف التي التصقت به، كالخفة، والكذب، والمبالغة والشعبوية، وبدا التصويت له كاملاً في الداخل وفي العلاقة بأوروبا، وهناك من أصبغ صفات تاريخية عليه وقارنه بتشرشل!
ولفوز جونسون دلالاته التي تتجاوز السياق البريطاني، فالنتائج تكشف عن سيولة سياسية متزايدة في الديمقراطيات تقضي بتوسيع نطاق التوقعات والمفاجآت في مواسم الاقتراع.
ومن رسائل فوز جونسون التي تؤيدها شواهد أخرى من أوروبا وخارجها، أن مركزية الفرد السياسي الشعبوي تتصدر ليصير هو المحور والمعبر الأوضح عن النهج، في حين تضمر التقاليد الحزبية ويصير الحزب مجرد حالة متمركزة حول فرد يربح الجولات الانتخابية بصفة جارفة وقد يضمر من بعده.
بينما خاض جيرمي كوربن – زعيم حزب العمال- المعركة السياسية الخاطئة في التوقيت الخاطئ، فقدم وعودا بالمزيد من الإنفاق على خدمات الصحة الوطنية وتأميم قطاعات مثل السكك الحديدية والمياه والطاقة، وهي الوعود التي لم تلق قبولاً أو صدى لدى الناخب البريطاني، بل ربما حدث العكس، إذ نفر قطاع كبير من البريطانيين منه، الذين شعروا وكأنه يعد بدولة اشتراكية لا تشبه سوى بريطانيا في الستينات ومرحلة ما قبل تولي مارغريت تاتشر رئاسة الوزراء.  ويبدو بأن كوربن أو الكوربونية لم تكن مرغوبة من الأوساط البريطانية المحافظة، ولا من فئات محظية أو من قطاعات المال والثروة في البلاد، علاوة على مفعول التغطيات الإعلامية والحملات المتوالية التي استهدفت إسقاطه على خلفية تضامنه الواضح مع الشعب الفلسطيني، وقد تصاعدت بضراوة قبيل الاقتراع الذي أفضى إلى تراجع تاريخي للعمال.
ويكفي التذكير بأن بعض المواقع التقليدية للعمال في شمال إنجلترا الصناعي صوتت، للمرة الأولى منذ عقود، لصالح المحافظين، ما جعل فوز جونسون تاريخيا، لقد ظل حزب العمال قادراً على الاحتفاظ بمعقله في مدن الشمال الإنجليزية، مدن التصنيع، ومدن العمال لعقود. لكن في الانتخابات البريطانية الأخيرة استطاع زعيم لحزب المحافظين أن يخترق الجدار الأحمر ويحدث فيه ثغرة زرقاء لا يمكن تجاهلها.
كما أن كوربن لم يع أن المهاجرين باتوا يمثلون كبش الفداء في المعادلة الحالية، والحديث عن التنوع الثقافي والاجتماعي لم يكن مناسباً ليخاطب به من يشعرون بالتهديد، وإن يكن تهديداً بطيئاً وخفياً، إلا أنه يخترق المجتمع ويغيره.
ويبدو أن الناخب البريطاني نظر من أعلى قمة الجبل إلى الهاوية حيث تقبع «أهوال» خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ووجد أنها متناهية في الصغر من أعلى القمة حيث الاقتصاد الأصغر والدور الأصغر على المسرح العالمي، وقام بانتخاب بوريس جونسون للتأكيد على رغبته بالخروج من الاتحاد الأوروبي، عبر الإقبال الكبير على المشاركة في التصويت، وكانت النتائج أكثر دقة من انتخابات عام 2017، حيث عكست بشكل كبير حجم جونسون، وعبرت عن التأييد الساحق من الشعب البريطاني لصالح قوة القومية والهوية البريطانية.
البرلمان البريطاني الجديد، الذي بدأ دورته، برلمان جونسوني. صممه، وسيقوده السيد بوريس جونسون، طوال خمس سنوات قادمة، بأغلبية 80 مقعداً، في طريق من اختياره، وبسياسات من تخطيطه، لتحقيق أهداف عديدة، تبدأ بوضع حجر أساس لمرحلة ما بعد الخروج، مروراً بفتح معابر ومنافذ تجارية جديدة، والبحث عن أسواق وشركاء مختلفين. مجلس العموم الجديد، مختلف في تأسيسه عن سابقه، بنوعية نوابه الجدد، الذين يدخلونه لأول مرة، وبالخلفيات الإثنية والتعليمية والطبقية والعُمرية التي انبثقوا منها. ولقد وافق المشرعون البريطانيون الجدد على مشروع قانون بريكست، الذي طرحه جونسون تمهيدا لتنفيذه في نهاية الشهر المقبل، بعدما فشل في مرحلة سابقة في تمريره مع البرلمان القديم.
وستدفع بريطانيا ثمنا كبيرا لخروجها من الاتحاد الأوروبي، وستعود إلى الخلف.
ما سيحدث أن بريطانيا ستخسر عالما ربحته من خلال البوابة الأوروبية. كانت المستفيد الأول من الاتحاد الأوروبي واستطاعت الحد من النفوذ الفرنسي والألماني داخل الاتحاد عن طريق توسيعه ودفع دول أوروبا الشرقية إلى الانضمام إليه.
العودة إلى خلف ليست عودة إلى العصر الذهبي الذي بدأ في منتصف سبعينيات القرن الماضي بوصول مارغريت تاتشر إلى موقع رئيس الوزراء. العودة إلى خلف تعني العودة إلى أيام هارولد ولسون في ستينات القرن الماضي عندما عجزت بريطانيا عن إيجاد صيغة تضمن لها التكيف مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والعيش في ظل وهم اسمه القوة العظمى.
هل سينجح بوريس جونسون في إيجاد مكان لبريطانيا على الخريطة الأوروبية والدولية على غرار ما فعلت تاتشر التي عرفت كيف تجمع بين العلاقة الوطيدة مع أوروبا، وأميركا، ويتعلم من تاتشر.
لقد تعلمت مارغريت تاتشر من تجارب الماضي القريب. تعلمت خصوصا من الفشل المستمر لحزب العمال الذي أفقر بريطانيا. وتعلمت من حرب السويس للعام 1956، وهي حرب كشفت حدود القوة البريطانية واستحالة عصيان الولايات المتحدة أو السير في سياسات من خلف ظهرها.
الانتخابات البريطانية حدثت، بريكست أصبح حقيقة لا يمكن إنكارها، وستقفز بريطانيا من القطار الأوروبي.