إعلان المحكمة الجنائية الدولية عزمها التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية المرتكبة في فلسطين

حجم الخط

بقلم: المحامي علي ابوهلال*

 

أعلنت المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، يوم الجمعة الماضي عزمها فتح تحقيق في ارتكاب "جرائم حرب" محتملة، في الأراضي الفلسطينية، وقالت "بنسودا" في بيان، نشر على موقع المحكمة الإلكتروني، إن "جميع المعايير القانونية التي ينص عليها ميثاق روما (معاهدة تأسست بموجبها المحكمة جنائية الدولية) توافرت، وتسمح بفتح تحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب بالأراضي الفلسطينية"، وأضافت: "لدي قناعة بأن جرائم حرب ارتكبت بالفعل أو ما زالت ترتكب في الضفة الغربية بما يشمل القدس الشرقية وقطاع غزة".

كما أكدت بنسودا أنه في ظل طلب دولة فلسطين لتدخّل المحكمة "فإنها لا تحتاج لطلب موافقة القضاة على بدء التحقيق"، وأشارت إلى أنها ستطلب من المحكمة، تحديد ما هي الأراضي المشمولة ضمن صلاحياتها، كون إسرائيل ليست عضوا في المحكمة.

ورحبت فلسطين بإعلان المحكمة الجنائية الدولية توفّر كافة الشروط لبدء تحقيق في "جرائم حرب" محتملة بالأراضي الفلسطينية، وقالت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية، في بيان، إنها "أخذت علما بقرار مكتب المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية الطلب من الدائرة التمهيدية في المحكمة إصدار قرار للبت في اختصاصها الإقليمي في فلسطين".

واعتبرت ذلك "خطوة للمضي قدماً نحو فتح التحقيق الجنائي الذي طال انتظاره في الجرائم التي ارتكبت وترتكب في أرض دولة فلسطين المحتلة"، وأضافت الخارجية أن هذه الخطوة تعتبر "الأولى من نوعها التي تتخذها المدعية العامة منذ إعلانها بدء الدراسة الأولية في يناير/ كانون الثاني 2015، وتعكس نيتها فتح التحقيق الجنائي في الحالة في فلسطين".

وهاجم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قرار المحكمة الجنائية الدولية عزمها التحقيق في "جرائم حرب" محتملة بالأراضي الفلسطينية، وقال في بيان أصدره مكتبه، إن "هذا يوم أسود بالنسبة للحق وللعدالة، يتم تحويل المحكمة الجنائية الدولية إلى سلاح سياسي في إطار الكفاح ضد إسرائيل"، وادعى نتنياهو أنه "ليست للمحكمة الجنائية الدولية أي صلاحية لبحث هذا الموضوع"، معتبرًا أن المحكمة "لديها صلاحية فقط لبحث قضايا ترفع من قبل دول ذات سيادة، ولكن لم تكن هناك أبدا دولة فلسطينية".

وأعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن الولايات المتحدة "تعارض بحزم" أي تحرك للمحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل، بعد إعلان المدعية العامة لهذه المحكمة أنها تريد فتح تحقيق كامل حول وقوع "جرائم حرب" محتملة في الأراضي الفلسطينية"، وأضاف "لا نعتقد أن الفلسطينيين مؤهلون كدولة ذات سيادة، ولهذا هم ليسوا مؤهلين للحصول على عضوية كاملة أو المشاركة كدولة في المنظمات أو الكيانات أو المؤتمرات الدولية، بما فيها محكمة الجنائية الدولية".

لا شك أن إعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية عزمها فتح تحقيق في ارتكاب "جرائم حرب" محتملة، في الأراضي الفلسطينية، يعتبر تطورا هاما في موقف المحكمة الجنائية الدولية تجاه الطلبات الفلسطينية المتكررة للمحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها دولة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو يؤشر إلى الدخول في معركة طويلة لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين في المحكمة الجنائية الدولية فهل تنجح المحكمة في تحقيق هذا الهدف أم أن هذه الفرصة ستفشل أمام التعقيدات والتحديات التي ستواجهها؟

فرص النجاح والفشل في فتح التحقيق ومحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين

هناك طريق طويل للوصول إلى فتح التحقيق في هذه الجرائم، وطريق أطول لتقديم الجناة إلى المحاكمة، وهذا يعود لعدة أسباب من أهمها: آليات عمل التحقيق، إجراءات المحاكمة الطويلة في المحكمة، والعقبات والقيود القانونية التي ستواجهها هذه المحكمة.

الجهود الفلسطينية قديمة جديدة متواصلة

استمرت الجهود الفلسطينية منذ عدة سنوات للوصول إلى إعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية عزمها فتح تحقيق في ارتكاب "جرائم حرب" محتملة، في الأراضي الفلسطينية. ففي شهر كانون الثاني/ يناير من عام (2009 م)، عقب انتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أودع وزير العدل الفلسطيني إعلاناً رسمياً لدى مكتب المدعي العام للمحكمة، وطلب من خلاله، إجراء تحقيق في الجرائم المرتكبة أثناء عملية "الرصاص المصبوب" الإسرائيلية في قطاع غزة، إلا أن مكتب المدعي العام رفض الطلب الفلسطيني بحجة أن فلسطين ليست دولة وفق القانون الدولي.

وفي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من عام (2012)، نالت فلسطين وضع دولة غير عضو تتمتع بصفة مراقب لدى الأمم المتحدة، وأصبح بإمكانها الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية.

وفي شهر 25 تموز/ يوليو (2014)، وأثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بعث وزير العدل في السلطة الفلسطينية والنائب العام رسالة إلى مكتب المدعي العام يطالبه بفتح تحقيق على أساس بلاغ عام (2009)، إلا أن المدعية العامة للمحكمة أجابت على الطلب بأن " رئيس الدولة ورئيس الحكومة ووزير الخارجية فقط، هم المخولون بالإعلان عن موافقة فلسطين على الامتثال لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

وفي شهر كانون الثاني/يناير من عام (2015 م)، أودعت فلسطين عبر وزارة الخارجية إعلاناً جديداً لدى المحكمة بموجب المادة 13 الفقرة 3، قبلت فيه باختصاص المحكمة بأثر رجعي يعود إلى تاريخ 13 حزيران/ يونيو (2014م)، لكي تتمكن المحكمة من التحقيق في الجرائم المرتكبة في العدوان على قطاع غزة عام (2014 م)، كما قامت فلسطين بنفس الوقت بإيداع وثائق الانضمام إلى نظام روما، وأصبحت فلسطين عضواً بالمحكمة بتاريخ الأول من نيسان/ ابريل (2015م) وفي 16 كانون الثاني/ يناير (2015م)، أعلن مكتب المدعي العام أنه شَرع في دراسة أولية على أساس الإعلان الصادر بموجب المادة (12) من ميثاق روما، وقامت دولة فلسطين بتقديم بلاغها الأول بشكل رسمي إلى المحكمة الجنائية الدولية يوم 25 حزيران/يونيو (2015م) من أجل المساهمة بدعم الدراسة الأولية في الجرائم المرتكبة في أرض دولة فلسطين بما فيها القدس الشرقية منذ 13 حزيران/ يونيو (2014)، وبتاريخ 22 أيار/ مايو (2018) قدمت دولة فلسطين إحالة لمكتب المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية بشأن الحالة في فلسطين.

آليات التحقيق في المحكمة والقيود التي تواجهها

بعد أن قررت المدعية العامة وجود أساس معقول للشروع في إجراء تحقيق، يجب عليها أخذ موافقة الدائرة التمهيدية بالمحكمة لمباشرة التحقيق، وفي حال رفضت الدائرة التمهيدية إعطاء إذن للمدعى العام بإجراء تحقيق، فإن هذا الرفض لا يمنع المدعية العامة من تقديم طلب جديد للدائرة التمهيدية يحتوي على وقائع وأدلة جديدة، وفي حالة موافقة الدائرة التمهيدية بالمحكمة المباشرة في التحقيقات الذي طلبته المدعية العامة فان إجراء التحقيق سيتعرض إلى حملة واسعة من الضغوطات الأمريكية والإسرائيلية لمنع وعرقلة هذا التحقيق، بما في ذلك الضغوطات المالية والسياسية والدولية على المحكمة ذاتها وعلى المدعية العامة وعلى القضاة أنفسهم.

ولعل أهم قيد قانوني يمكن أن تلجأ له الولايات المتحدة لتأجيل وإرجاء التحقيق هو اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي بموجب المادة (16) من ميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية والتي تنص على ( لا يجوز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام الأساسي لمدة اثنى عشر شهراً بناءً على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة , ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها).

ربما لا تستطيع الولايات المتحدة أن تحصل على قرار من مجلس الأمن لتأجيل التحقيق بموجب المادة ( 16) لأن هذا يقتضي الحصول على أصوات 9 أعضاء من مجلس الأمن بما فيهم أصوات الدول الخمس الدائمة العضوية في المجلس، بسبب الخلافات القائمة الآن بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين، مما يحول دون تمرير هذا القرار، وهذا سيكون في صالح المحكمة أن نجحت في مقاومة الضغوطات السياسية والمالية الأخرى التي ستمارسها كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية عليها لتمنع المباشرة في التحقيق.

إن إعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية عزمها فتح تحقيق في ارتكاب "جرائم حرب" محتملة، في الأراضي الفلسطينية، هو قرار هام جدا، ويشكل خطوة هامة على طريق المائة ميل الباقية نحو الشروع في هذا التحقيق، ولا ينبغي التقليل من قيمة هذا الإعلان رغم التحديات والعقبات الكبيرة التي ستواجهه، أما الوصول إلى محاكمة الجناة سيكون طريقاً أطول بالتأكيد وسيواجه تحديات أكثر صعوبة، ولكن المهم في هذا الصدد أن طريق التحقيق في ارتكاب "جرائم حرب" محتملة، في الأراضي الفلسطينية، قد أصبح مفتوحا وممكناً، وعلى فلسطين وكافة القوى والدول الداعمة لها مواصلة الطريق نحو تحقيق هذا المطلب حتى لا يفلت مجرمي الحرب من العقاب، وحتى لا تبقى دولة الاحتلال فوق القانون.

*محام ومحاضر جامعي في القانون الدولي.