عن "سيداو"، والعشائر

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

أصدر حزب التحرير بياناً باسم عشائر الخليل، دعا فيه بوضوح إلى إغلاق المؤسسات النسوية المعنية بالدفاع عن حقوق المرأة، ومنع نشطائها من العمل، وإلى انسحاب السلطة من التوقيع على اتفاقية "سيداو"، وتحذير وسائل الإعلام من الترويج لها، وإلى إلغاء تحديد الحد الأدنى من سن الزواج للفتيات.. مبرراً ذلك بأن "سيداو" وما ينجم عنها إنما هي مؤامرة غربية ضد الإسلام، هدفها تفتيت الأسرة، ونشر الرذيلة والفسق.
بداية، لا مشكلة في وجود العشائر في المجتمع الفلسطيني، فهو مثل كل المجتمعات العربية ما زال ينتمي لمرحلة ما قبل الحداثة.. ووجود العشائر مسألة طبيعية، لكن المشكلة في الفكر العشائري، وحين تحل العشيرة مكان المؤسسة، ويصبح قانونها بديلاً لقانون الدولة، ومنطقها حائلاً دون تطور المجتمع إلى مجتمع مدني.
وأيضاً، من حق العشائر أن تبدي قلقها على المجتمع، وأن تتخوف من التغيرات التي قد تؤثر على تماسك الأسرة، وعلى قيم المجتمع وأعرافه، وهذا حق طبيعي لأي مواطن.. فالجميع حريص على الأخلاق والمبادئ.. وحين يتعلق الأمر بمستجد غريب حتى باسمه ومحتواه (مثل سيداو)، فمن الطبيعي أن تُثار الأسئلة والمخاوف.. ولو كان الأمر كذلك، فتلك مسألة سهلة، تتطلب أولاً قراءة "سيداو" بتبصر، والتأكد فيما إذا كانت تتضمن نقاطاً مخالفة للشريعة، وتضرب قيم المجتمع، ثم فتح حوار عقلاني مع قانونيين ومختصين، بشفافية، وعلى الملأ.. وهنا ليس بالضرورة أن يقتنع الجميع، وفي كل الأحوال، من حق كل دولة توقّع على "سيداو" التحفظ على أي نقطة تتعارض مع قيم مجتمعها وأعرافه.
لكن هذا لم يحدث، فقد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي وثيقة (مزيفة) تضمنت بنوداً تدعو للزنا والإجهاض وتعدد الأزواج، وقيل إنها بنود من سيداو.. الأمر الذي أثار مخاوف الناس، وجعلهم يتخذون موقفاً عدائياً من "سيداو"، دون أن يكلف أحدهم نفسه عناء القراءة والسؤال.
الغريب أن البيان جاء باسم عشائر الخليل، ولم تتحرك العشائر في بقية المحافظات! ونحن على يقين بأن كل مجتمعنا حريص على القيم والشرف والمبادئ؟ السلطة وقعت على الاتفاقية منذ العام 2009، فلماذا يُثار الموضوع الآن؟ 18 دولة عربية وقعت على الاتفاقية، ولم يعترض أحد!
الإجابة عن هذه الأسئلة تعيدنا إلى حزب التحرير.
في العام الماضي، أسقط المتظاهرون قانون الضمان الاجتماعي.. وهو قانون مهم، ويعد ركيزة لأي مجتمع متحضر، يكفل حقوق العمال والموظفين.. صحيح أن ذلك القانون كان يتضمن نقاطاً سلبية.. كان بالإمكان تغييرها وتطويرها للأحسن.. لكن المتظاهرين الذي خرجوا في البداية احتجاجاً على نقاط محددة، مطالبين بتغييرها، سرعان ما تغيرت مطالبهم بإسقاط القانون كلياً.. وقد تبين أن بعض أصحاب العمل (بالشراكة مع حزب التحرير، وكلٌ له غرضه) هم الذين حرضوا الجماهير ضد القانون.. أصحاب الشركات الكبرى لا يريدون دفع مستحقات موظفيهم، وحزب التحرير لا يريد القانون، ولا يريد المؤسسة، ولا يريد مجتمعاً مدنياً.. وتلك كانت أول مرة يخرج الناس ضد حقوقهم ومصالحهم.. بسبب حجم التضليل.
يتكرر المشهد مع "سيداو"، تحريض الناس ضده، بعبارات جاهزة، وأحكام مسبقة، وتعميمات، فيها الكثير من التضليل والشعبوية..
"سيداو" تدعو للمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والعمل والأجور والانتخاب، وحق الوصاية على الأولاد، ومنح الجنسية، وغيرها من الحقوق.
الخطاب المعارض، يستنتج مباشرة أن منح المرأة حقوقها يعني تمردها على الرجل، وعصيانها للزوج.. منحها الحرية يعني خروجها عن العادات، فهل هذا نتيجة عدم ثقة بالمرأة أم عدم ثقة بالموروث الثقافي وأنظمة المجتمع التقليدية؟
لا أعرف كيف يكون تحديد سن الزواج للفتاة تفتيتاً للأسرة؟ فهل زواج الفتاة بعد أن تكبر، وتنهي تعليمها، وتفهم الحياة أكثر، وتعي مسؤوليتها، وماذا يعني زواج، وأسرة، وتربية الأطفال؟ هل هذا يفتت الأسرة أم تزويج كهل لطفلة في عمر البراعم سيؤدي إلى حماية الأسرة؟
الادعاء بأن تحديد سن الزواج يتعارض مع الشريعة، مسألة بحاجة لنقاش.. فلم يرد في القرآن ما يحدد عمراً معيناً، بل إن تحديد سن الزواج، وتعدد الزوجات ليس من صلب الإسلام، ولا من العقيدة..
فالمسلم لا يخرج عن إسلامه إذا زوّج ابنته في عمر العشرين مثلاً، ولا يخرج عن إسلامه إذا رفض أن يتزوج على زوجته.. تلك ممارسات كانت سائدة قبل الإسلام، وبعضها استمر بعده، ومن نظمها هم فقهاء القرن الأول والثاني الهجري.. فإذا كانت مقبولة آنذاك، فليس بالضرورة أن نقبلها اليوم.. فمثلاً تنظيم قضايا العبيد والجواري والسبايا والغنائم، تعتبر اليوم جرائم ضد الإنسانية.. ولا أظن أن بوسع أحد اليوم أن يدعو لإعادة افتتاح أسواق النخاسة، والإتجار بالجواري، وبيع ابن العبد رغماً عن والديه، لأنه ملكٌ لسيده.
لا أشك في أن الإسلام منح المرأة حقوقها، وساواها مع الرجل لكونها إنسانة.. ولكن، بنظرة على واقع مجتمعاتنا (الإسلامية)، سنجد قصصاً مروعة عن ضرب الزوجات، واغتصابهن، وعن حبس الفتيات، وحرمانهن من التعليم، ومن السفر، وحرمانهن من الميراث، وحرمان المطلقة من رؤية أطفالها، ومنع الزوجة من زيارة أهلها، وعن استسهال قتلهن، والنجاة من العقوبة، فضلاً عن عدم المساواة في العمل، والأجور، وفي تولي المناصب العامة، والنظرة الدونية تجاه المرأة، سواء في ثقافة المجتمع وممارساته، أو في القوانين التي لا تكفل حمايتهن.. وتلك الممارسات ليست حالات شاذة ومحدودة، بل هي ظاهرة مستفحلة، تحتاج معالجة حقيقية بقوانين محددة وواضحة، وليس الاكتفاء بنصوص دينية وقانونية لا يلتزم بها أحد، أو إنها ليست بالشكل الذي يكفل تطبيقها على نحو عادل.
المجتمعات تتطور، وتحتاج قوانين تواكب تطورها.. وما قاله الفقهاء قبل أزيد من ألف عام، كان جيداً، ومقبولاً في حينها.. ولكنه بحاجة إلى تحديث.
ليس كل ما يأتي من الغرب مؤامرة؛ أما تحصين المجتمع فيكون بالعلم، وتحسين التعليم، وتطوير البحث العلمي، وسن القوانين العصرية، ومعالجة الفقر والبطالة والعشوائيات، ومكافحة الفساد، ودعم الشباب، وتمكين المرأة والفئات المهمشة.. يُضاف إلى ذلك، في حالتنا الفلسطينية، التصدي للاحتلال، ومشاريعه التخريبية في نشر المخدرات، والجريمة، وتنظيم الجواسيس، والإسقاطات الأمنية، وصفحة "المنسق".. وهذه أمور غابت كلياً عن بيان حزب التحرير، لأنّ لديه أولويات أخرى.