لبنـــان والحيـــاد المستحيـــل

حجم الخط

بقلم ابو علي حسن

 

 في خضم الحراك اللبناني أقدمت الجهات والرموز اللبنانية المعروفة بتوجهاتها السياسية والفكرية, أن تقيم في ساحة الشهداء في بيروت ندوة سياسية أو فكرية تحت عنوان "حياد لبنان" في محاولة لتسويق ثقافة سياسية مختلفة, واختراق الرأي العام اللبناني من قبل قلّة لبنانية اغترابية الفكر والهوية...ولما كانت الدوافع والغايات واضحة للعيان ولا تحتاج إلى كبير عناء لكشف مراميها, فقد تصدّت لهذه الرموز الانعزالية جمهرة من الشباب الوطني والقومي, هاتفين ومناصرين لقضية فلسطين, في إشارة واضحة بأن الحياد المقصود, يستهدف بالدرجة الأولى قضية فلسطين.... قد لا تكون هذه المحاولة مفاجأة للبعض الوطني, فالاحتمالات كانت واردة باتجاه حرف واستثمار الحراك الشعبي اللبناني وأخذه بعيداً عن غاياته وأسبابه ومطالبه الأساسية, وباتجاهات خادمة للقوى الخارجية ذات الأجندة المعادية للأمة العربية, وباتجاه ضرب فكرة المقاومة ومرجعياتها, وصولاً إلى إخراج لبنان كلياً من دائرة الفعل المقاوم, والتعسكر في محور آخر غير محور القوى الوطنية والتقدمية, تحت حجة أن لبنان المحايد هو الطريق إلى مغادرة الأزمة الاقتصادية والسياسية والمالية...!!

 هذه الواقعة بما تحمله من معاني ودلالات عميقة في الجدل الفكري التاريخي الذي يحاول أن يبعد لبنان عن محيطه العربي, ليست نتاج دسته من الشباب اللبناني معروفي الهوية, إنما هي صدى أو تعبير عن تيار لم يبلغ الرشد بعد, على الرغم من قدمه منذ الانتداب الفرنسي, كما أنها صدى لحالة عربية تتشكّل منذ عقود في أكثر من بلد عربي, فالفكرة "الحياد" لطالما رددها الكثير من بعض المثقفين والمفكرين في الواقع العربي القطري مع كل أزمة سياسية أو اقتصادية تواجه قطر عربي...

    إن الأفكار والنظريات السياسية الجديدة, لا يمكن إدراكها إلا في سياق المناخ السياسي والفكري والثقافي السائد في منطقة ما, وعليه من الأهمية بمكان تناول فكرة "الحياد السياسي" في سياقها التاريخي العربي, وفي أي الظروف تولّدت هذه الأفكار, وما الذي تهدف إليه, ومن هم وراءها, وما هي الخلفيات الاجتماعية والسياسية, وما هي المصالح التي يمثّلونها ويسعى إليها أصحابها, وفي السياق, ما هو الحكم على هذه الفكرة من حيث صوابيتها أو فائدتها...وما هي إمكانية تطبيقها في الواقع العربي وآثارها السياسية والاجتماعية والهوياتية...

مصــــــر نموذجـــــــــاً

 في لحظةٍ تاريخية عاشتها مصر بعد هزيمة حزيران, وموت جمال عبد الناصر رائد الفكرة القومية العربية, وما تلاها من حرب أكتوبر التي حققت انتصاراً عسكرياً مذهلاً, لكنها فتحت الباب واسعاً لأفكار ونظريات سياسية أدّت إلى كامب ديفيد, والاعتراف بالكيان الصهيوني....الأمر الذي أدّى إلى نشوء أزمات سياسية واقتصادية وثقافية, هذا المناخ السياسي المأزوم جعل البعض يفكر بأن خلاص مصر من أزماتها لا يأتي إلا عبر الحل التاريخي "الحياد" وتصدّر هذا المشهد الكاتب توفيق الحكيم, داعياً إلى حياد مصر, حيث كتب مقالات في جريدة الأهرام في 3/3/1978 تحت عنوان "الحياد" ( لن تعرف مصر راحة, ولن يتم لها استقرار, ولن يشبع فيها جائع, إلا عن طريق واحد, يكفل لها بذل مالها لإطعام الجائعين والمحتاجين, وتكريس جهدها للتقدم, وهذا لن يكون أبداً ما دامت الأموال والجهود تضيع بعيداً عن مطالب الشعب, بدافع من مشكلات خارجية ودولية تغذيها الأطماع الشخصية والداخلية, ما هو الطريق إذن, إلى واحة الحرية والاستقرار والراحة وإطعام المعدة والروح والعقل...؟ إن هذه الواحة المورقة المزهرة إسمها "الحياد"...)

    هذا المقال أثار في حينها جدلاً واسعاً بين مفكري وأساتذة مصر, على مدار سنوات, ولم يؤيد هذه الفكرة إلا قلّة من المفكرين وعلى رأسهم الدكتور المفكر حسين فوزي, بينما تصدّى له عشرات المفكّرين العروبيين في هبّة عروبية واسعة, وكان السؤال العروبي لهؤلاء...(نحايد من... نحايد عدوّاً لا يحايدنا...؟ بل دائماً هم الذين يحاربونا...وهم الذين يحطمون سلاحنا وبيوتنا...وهم الذين يجرّوننا للقتال جرّاً...)

   ورغم ذلك فقد انتصرت الحيادية في مصر حين التزم نظام السادات بالحياد مع العدو الصهيوني, وزار الكيان الصهيوني, وظهر مفهوم (التضامن العربي) بدلاً عن سياسة الدفاع المشترك ومحاور المقاومة, وخرجت مصر بهذه السياسة الحيادية من حلبة الصراع العربي – الاسرائيلي, وعزلت نفسها عربياً, وخرجت من إفريقيا, وبهت دورها الريادي على مدى عقود, وإلى يومنا هذا لم يستطع "سلاح الحياد" أن يخرج مصر من أزماتها السياسية والاقتصادية...

    هذا النموذج من الحياد العربي, دفع مصر والعرب على ممارسة دور المتفرّج, أثناء حرب الكيان الصهيوني على م.ت.ف في لبنان, واجتياح لبنان وعاصمته بيروت العربية...

   هذا النموذج المصري دشّن حالة استثنائية في الواقع العربي, حيث تجلّت عبقرية الحل الحيادي في اصطلاح "القطرية أولاً" أي أن المصلحة القطرية فوق كل المصالح العربية والقومية, وانتشرت هذه النظرية أولاً في كل القطريات العربية على طريق التدرّج نحو الحياد والفصل عن الهموم العربية, وصولاً إلا الاعتراف بالعدوّ الصهيوني, ومن ثم التطبيع مع الكيان, والوصول إلى التعاون معه في مواجهة قطريات عربية أخرى...!!!

حيـاد لبنـان وأصـل الفكـرة

  إن فكرة الحياد اللبناني ليست فكرة وليدة اللحظة السياسية الراهنة, فمنذ أن تأسس الكيان اللبناني وإعلان "دولة لبنان الكبير عام 1920" ومحاولات تمييز لبنان عن الواقع العربي وتحييده عن الأزمات العربية وسياساتها, قائمة ومتجددة مع كل محطة سياسية أو أمنية...

  إن أصل فكرة حياد لبنان نابعة عن موقف سياسي استعماري, ارتباطاً بالفكرة الأم التي عملت على فصل لبنان عن سوريا الكبرى, حيث عمل الانتداب الفرنسي مبكّراً على نشر ثقافة الخوف لدى اللبنانيين من الغرق في المحيط السوري أو العربي, وحاول جاهداً أن يجعل من لبنان هوية مفارقة لهوية المنطقة أو الهوية السورية أو العربية, فالأصل الفينيقي للجغرافيا اللبنانية تبرر التمايز عن مكونات المنطقة...!! وعمل الانتداب على إقامة نظام سياسي برلماني لبناني بمسحة ديمقراطية, يختلف في آليات الحكم عن أغلبية الدول العربية, فحين أعلن الجنرال غورو باسم فرنسا ولادة دولة لبنان الكبير المستقلة التي ضمّت أراضي متصرفية جبل لبنان ومدن بيروت وطرابلس وصيدا وصور وسهل  البقاع وبعلبك وأقضيتها الأربعة, أضاف بأن ذلك يعني "عودة لبنان التاريخي إلى الوجود, وقيام دولة مستقلة قائمة بذاتها" إن هذا التعبير له مدلوله بأن لبنان من هوية مختلفة تاريخياً...

   هذا الموقف الفرنسي القائم على أن لبنان هو الأقرب إلى فرنسا دينياً وتاريخياً وثقافياً, وأنه أحد مرتكزاتها الأساسية ومصالحها في الشرق الأوسط,  وأن لبنان ينتمي إلى مجموعة الدول الفرنفكوفونية...دفع البعض اللبناني إلى فكرة "لبنان المحايد" في مطلع العشرينيات من القرن الماضي, حين دعا عضو المجلس الإداري للبنان, السيد سليمان كنعان إلى تبني "فكرة نظام حيادي بضمانة الدول الكبرى" وقد تلقفتها حينها بعض  القوى أو التيارات السياسية...

    وفي مرحلة الخمسينيات والستينات من القرن الماضي وفي خضم الدعوات للوحدة العربية,  وسياسات الأحلاف والمحاور السياسية, خرجت بعض الفئات المسيحية بالدعوة إلى "حياد لبنان" أو الانتماء للمحاور الغربية, حيث عمل  الرئيس كميل شمعون على انتماء لبنان إلى حلف بغداد المركزي في مواجهة سياسات عبد الناصر الوحدوية, ولاحقاً اقترح الرئيس شارل الحلو قانوناً لـ "حياد لبنان" على الطريقة النمساوية, وفي عام 1967 قدّم حزب الكتائب اللبناني رؤية فكرة "لبنان المحايد" ارتباطاً بتجدّد الصراع العربي – الاسرائيلي بعد هزيمة حزيران...

    ومع ظهور المقاومة الفلسطينية في لبنان تنامت فكرة الحياد, كاتجاه معارض للعمل الفدائي الفلسطيني, بغية الابتعاد عن دائرة الصراع العربي – الاسرائيلي, حيث ظهرت ما سمي حينه "حركة لبنان المحايد" التي أطلقها روجيه إدّة زعيم الحركة السياسية في الثمانينات...ولم يلبث أن قدّم رئيس مجلس النواب حسين الحسيني, رؤية لحياد لبنان على الطريقة النمساوية كتلك التي اقترحها الرئيس شارل الحلو...وعادت الفكرة تظهر على صفحات جريدة العمل الناطقة باسم الكتائب اللبنانية, بعد أن ألغي اتفاق الإذعان بين "اسرائيل" ولبنان...

    ولم تقف محاولات تحييد لبنان,  وإيجاد الصيغ المناسبة لوصف هذا الخيار, حيث صدر إعلان بعبدا في 2014  الذي نصّ صراحةً على "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية, بما يجنّبه الانعكاسات السلبية للأزمات الإقليمية...إلخ"

   وفي السياسة العامة للدولة اللبنانية ظهر اصطلاح النأي بالنفس, الذي يعكس الرغبة في الحياد عن الأزمات المحيطة به, وإرضاء الأطراف الإقليمية المؤثّرة في السياسة الداخلية اللبنانية...

    وكل هذه الإرهاصات السياسية في تحديد استراتيجية التموضع السياسي الاستراتيجي للبنان, لم تكن بعيدة عن الرؤية الأمريكية في تسويق "الحياد اللبناني" عبر الدعوة إلى المؤتمر الدولي للسلام عام 1987 كعامل سلام داخلي وتوازن داخلي...

    إن تجديد فكرة الحياد اللبناني كانت دائماً متلازمة مع حضور الأزمات الوطنية السياسية والأمنية والاقتصادية كجواب عن "الحل" العبقري لهذه الأزمات...!!

    وينطلق البعض من أن أزمات لبنان السياسية والاقتصادية والأمنية, هي نتاج غياب الحياد, وضلوعه عنوة  في عملية الصراع الإقليمي والدولي, مما شكّل عليه أعباء فوق طاقته, غير قادر على تحمّلها وتحمّل تبعاتها...!!!

   هذا التحليل هو في الواقع يعكس حالة الهروب إلى الأمام من استحقاقات وطنية وعربية, في مواجهة أعداء حقيقيين وليس افتراضيين....فالعدو الاسرائيلي عدو قائم عملياً وسياسياً وأمنياً واستراتيجياً, ليس بمقدور لبنان أو أي دولة عربية أن تتجاهل حضوره على كل المستويات, فهل الهروب إلى الأمام من مواجهة هذه الخطر الاستراتيجي, والتحلل من الالتزامات الوطنية سيجعل من لبنان دولة خالية من كل الأزمات الاقتصادية والسياسية والطائفية والاجتماعية...؟؟

   فالقول أن "قوة لبنان في ضعفه" هي تجلّي لفكرة الحياد...ولفكرة أن لبنان مختلف, ولا ينطبق عليه ما ينطبق على الكيانات العربية الأخرى لضعف مساحته الجغرافية, والديمقراطية الوليدة, ولتنوعه الطائفي, ولارتباطه الفرنكفوني, ولاقتصاده الخدماتي, ولكونه سويسرا الشرق, أو باريس العرب,  ومأوى السياحة, لبنان الجميل لا يجب أن يكون قوياً إلا في انعزاله وحياديته ليبقى جميلاً...مأوى الخلاّن...مركز للمال...والسياحة العالمية...وملجأ للاستخبارات العالمية...هكذا تكون هوية لبنان...لبنان اللامنتمي...

    ولبنان اللامنتمي يعني أنه خارج عن محيطه العربي, وأنه متحلل من الالتزامات الأخوية, والعربية, والوطنية, وهو ليس معنياً بأية اتفاقات سياسية عربية أو مواثيق تلزمه بالتضامن أو المساندة لدولة عربية بعينها, فـ "اسرائيل" بمقدورها ان تجتاح أية دولة عربية دون أن يكون للبنان أي دور عملي وأمني بحكم "حياديته"...!!

   إن إمكانية أن يتحول لبنان إلى كيان محايد هو أمر في غاية الصعوبة لأسباب عديدة ومختلفة, داخلياً وخارجياً, فموقعه الجغرافي من جهة,  والتنوع الطائفي من جهة أخرى, لا يسمح له أن يكون حيادياً, أما على المستوى الخارجي, فالسياسة الاسرائيلية التوسعية, والسياسات الأوروبية والأمريكية التي تشد لبنان إلى سياساتها وأجنداتها, ستشكّل موانع حقيقية لـ "حياد لبنان"...

    أما محاولة الاستئناس بالحياد السويسري أو النمساوي, فهو حياد مؤسس دولياً, حيث أتفق على أن تكون النمسا دولة حيادية بعد الحرب العالمية الأولى, عبر عصبة الأمم المتحدة, بيد أن هذا الحياد المرسّم دولياً لم يمنع النازية من اجتياح النمسا عام 1938, أما سويسرا المحايدة, فقد كان حيادها قراراً من عصبة الأمم المتحدة, ارتباطاً بموقعها الجغرافي والمحاط بالمرتفعات الجبلية من جهة, ومن جهة أخرى لرغبة الدول الكبرى الرأسمالية, بأن يكون هناك ملجأ ومقر أوروبي للأمم المتحدة, ومنظماته ومؤسساته الدولية, كالصليب الأحمر الدولي وغيره...لأجل خدمة الرأسمالية,  وملجأها الآمن في فوائض الرأسمال المتراكم عبر مصارفها وحساباتها السرية...

 وعليه فإن فكرة الحياد, رغم أنها موجودة في الثقافة السياسية, إلا أنها في الواقع لا تحمل مضمون الفكرة, فهي فكرة هوائية أفلاطونية بعيدة عن الواقع, لا سيما في البلدان العربية التي تزخر بالتنوع المذهبي, ويحيط بها الأعداء من كل جانب, و هي محطّ استهداف القوى الإمبريالية, حتى ولو تحولت إلى كيانات حيادية...!!    إن العالم الذي تتجسد فيه اليوم الإمبريالية الرأسمالية بأبشع صورها...اقتصادياً وسياسياً وأمنياَ وثقافياً عولمياً...لا يمكن أن يسمح لدولة أن تأخذ قرارها بالحياد وتكون قادرة على تطبيقه دون أن تتعرض إلى ضغوط شتّى...والضغوط اليوم لم تعد تتماهى مع الحرب العسكرية, إنما هي الحرب الاقتصادية والمعلوماتية والمصرفية, والحصار, وكل مفردات الحروب الناعمة, وحروب الجيل الرابع السبراني.