«صفقة القرن» تنسف تاريخاً من المفاوضات التي كادت تصل إلى حلّ الصراع

حجم الخط

بقلم: شاؤول اريئيلي


احتاجت الحركة الوطنية الفلسطينية 71 سنة من أجل الانضمام الى المجتمع الدولي من خلال الاعتراف بقراراته. واحتاجت إسرائيل 15 سنة من أجل الموافقة على قرارات الأمم المتحدة كأساس لتسوية النزاع مع الفلسطينيين. وبرعاية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كانت تكفي إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو 4 سنوات من أجل التراجع عن ذلك. «صفقة القرن» هي إعادة النزاع 100 سنة إلى الوراء، إلى زمن وعد بلفور وبداية النزاع.
وعد بلفور، في العام 1917، وصك الانتداب، في العام 1922، اللذان دعيا الى إقامة وطن قومي لليهود، قادا الى سياسة فلسطينية تريد إصلاح الظلم التاريخي، الذي وقع على الفلسطينيين حسب رأيهم. لأن «مبدأ تقرير المصير لم يطبق على فلسطين في الوقت الذي وجد فيه الانتداب، في العام 1922، بسبب التوق الى التمكين من إقامة وطن قومي لليهود»، مثلما ورد في تقرير لجنة التقسيم من العام 1947.
على مدى 71 سنة رفض الفلسطينيون أي قرار دولي اعترف بإسرائيل، بدءاً من لجنة بيل في العام 1937، مرورا بالكتاب الأبيض في العام 1939، وانتهاء بقرار التقسيم 181 وقرار 194 وحتى قرار 242 و338. هذه السياسة، التي رافقتها نشاطات حربية و»إرهابية» ضد إسرائيل، كانت حبلى بالكارثة من ناحيتهم، وأدت الى حدوث النكبة وعدم وجود دولة.
السلام بين إسرائيل ومصر وانهيار الاتحاد السوفييتي والانتفاضة الأولى وظهور قيادة فلسطينية بديلة ودخول «حماس» كمعارضة، كل ذلك أدى الى التغيير. ففي العام 1988 اعترفت م.ت.ف للمرة الاولى بالقرار 181 الذي كان معناه تقسيم البلاد، ودولة للشعب اليهودي، وبقرار 242 الذي معناه أن «الدولة الفلسطينية لا تشمل اكثر من 22 في المئة من فلسطين التاريخية»، مثلما صرح الرئيس محمود عباس في العام 2008. أي أن الفلسطينيين وافقوا على أن تشمل دولتهم الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية. وأن يتم إيجاد حل متفق عليه لقضية اللاجئين بروح أقوال النائب السياسي لعرفات، صلاح خلف (أبو إياد) للأميركيين في العام 1988: «إن حق العودة لا يمكن أن يتحقق من خلال المس بمصالح إسرائيل... يجب أن لا يشكل عائقا لا يمكن تجاوزه».
دخلت إسرائيل عملية «اوسلو» في العام 1993 برؤية مختلفة. فقد أرادت ترجمة مصالحها الثلاث خلف الخط الأخضر، الأمن، والأماكن المقدسة في القدس والمستوطنات، عبر ضم أراض في الضفة بدون مقابل. عرض اسحق رابين في العام 1995 رؤيته على الكنيست، والتي بحسبها «الحل الدائم نراه في إطار حدود دولة إسرائيل، التي ستشمل معظم أراضي دولة إسرائيل... والى جانبها كيان فلسطيني يكون وطنا لمعظم الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية. نريد أن يكون هذا الكيان أقل من دولة».
ايهود باراك، الذي هو أول شخص بدأ بالمفاوضات من اجل التوصل الى الحل الدائم، رأى الامور بصورة مشابهة. ففي كامب ديفيد 2000 اقترح «ضم اراض لا تقل مساحتها عن 11 في المئة ويعيش فيها 80 في المئة من المستوطنين، الى إسرائيل»، وأن «إسرائيل ستقوم بالسيطرة لبضع سنوات على نحو ربع غور الاردن من أجل ضمان السيطرة على المعابر التي توجد بين الأردن وإسرائيل». وبالنسبة للقدس اقترح باراك أن يتم نقل الأحياء الإسلامية الخارجية للسيادة الفلسطينية (الـ 22 قرية التي قامت إسرائيل بضمها في العام 1967). والأحياء الإسلامية الداخلية (القدس الشرقية الأصلية) ستبقى تحت سيادة إسرائيل. بعد نشر «خطة كلينتون» في كانون الاول 2000 قام باراك بالتقدم خطوة أخرى تجاه الموقف الفلسطيني، في طابا 2001. ولكنه بقي يتمسك بضم 6 – 8 في المئة من الضفة بدون مقابل.
الشخص الأول، الذي فهم أن اطار المفاوضات ممكن، هو ايهود اولمرت، في عملية انابوليس في العام 2008، بعد 15 سنة على الاعتراف المتبادل بين إسرائيل وم.ت.ف. إن فهم اولمرت لم يكن نتيجة اعتراف صادق بحق الفلسطينيين، بل رؤية حكيمة للواقع القائم.
في مقابلة أجراها مع صحيفة «معاريف» في العام 2012 شرح اولمرت: «من المفهوم أنني لو كنت استطيع العيش في كل جزء من ارض إسرائيل والعيش بسلام مع جيراننا والحفاظ على طابع دولة إسرائيل اليهودي والحفاظ عليها أيضا كدولة ديمقراطية والحصول على دعم المجتمع الدولي، عندها كنت سأفعل ذلك. ولكن هذا غير ممكن. وعندما يكون الأمر غير ممكن فان قيادة مسؤولة يجب عليها الاعتراف بذلك... والتنازل عن سياسة شعبوية رخيصة والتصرف بمسؤولية واحترام».
بوساطة وزيرة الخارجية الأميركية في ادارة بوش الابن، كونداليزا رايس، وافق الطرفان على المبادئ التالية: الحدود – خطوط حزيران 1967 كأساس (مع تبادل اراض بنسبة 1:1)؛ الأمن – نزع سلاح الدولة الفلسطينية وترتيبات أمنية واسعة؛ القدس – تقسيم القدس الى عاصمتين بدون تغيير الوضع القائم للاماكن المقدسة؛ اللاجئون – حل مشكلة اللاجئين عن طريق عودتهم الى الدولة الفلسطينية أو دفع التعويضات لهم.
على أساس هذه المبادئ كان الاقتراح الفلسطيني، الذي لا يتم ذكره في الخطاب الإسرائيلي، الآن، تبادل أراض بمساحة 1.9 في المئة من أراضي الضفة وغزة، التي كانت ستسمح ببقاء 63 في المئة من الإسرائيليين الذين يعيشون خلف الخط الأخضر في بيوتهم (وقُدّم اقتراح آخر بدون خريطة، كان سيمكن إبقاء حوالي 75 في المئة من الإسرائيليين)؛ دولة فلسطينية منزوعة السلاح («محدودة التسلح»)؛ ضم الأحياء اليهودية في القدس الشرقية الى إسرائيل، باستثناء جبل أبو غنيم، وضم «حائط المبكى» والحي اليهودي ونصف الحي الأرمني وباقي «جبل صهيون»، وعودة لـ حوالي 100 ألف لاجئ فلسطيني الى داخل إسرائيل ودفع التعويضات للاجئين.
كان الاقتراح الإسرائيلي تبادل أراض بمساحة 6.5 في المئة من أراضي الضفة وغزة مع 85 في المئة من الإسرائيليين الذين يعيشون خلف الخط الأخضر، نزع سلاح الدولة الفلسطينية، ضم جميع الاحياء اليهودية في القدس وبيت صفافا العربية، واقامة نظام خاص في «الحوض التاريخي»، وعودة 5 آلاف لاجئ ودفع التعويضات للاجئين. وعن الفجوة بين الاقتراح الإسرائيلي والاقتراح الفلسطيني قال اولمرت في 2012: «لقد كنا على وشك التوصل الى اتفاق سلام. ولم يرفض الفلسطينيون اقتراحي ولا مرة. وحتى لو كان هناك جهات ادعت ألف مرة بأنهم رفضوا اقتراحي فان الواقع كان مختلفا. هم لم يوافقوا عليه لأن المفاوضات لم تنته، لقد كانت على وشك الانتهاء. لو أنني بقيت رئيسا للحكومة اربعة اشهر حتى ستة اشهر اخرى، فإنني واثق بأنه كان يمكن التوصل الى اتفاق سلام»، عاد اولمرت وكرر أقوالاً مشابهة، هذا الاسبوع، في محاضرة في شمال البلاد.
 بدأ نتنياهو ولايته الثانية بخطاب بار ايلان المشهور في 2009. وهو الخطاب الذي لم يفهمه الكثيرون، وعلى رأسهم والده بن تسيون نتنياهو، الذي قال إن ابنه «لا يؤيد دولة فلسطينية، بل فقط بشروط لن يوافق عليها العرب في أي يوم. لقد سمعت هذا منه» (القناة الثانية في 8 تموز 2009). نتنياهو اختار تجاهل كل العملية والتغييرات التي ذكرت هنا. وتمسك بموقفه، العام 1993، الذي يقول «النزاع ليس على اراض معينة من البلاد، بل على كل البلاد، النزاع ليس جغرافياً بل وجودي. الموضوع الذي يقف على رأس الأجندة ليس هل ستمر الحدود في هذا المسار أو ذاك، بل الوجود القومي الإسرائيلي. هم لا يريدون دولة فلسطينية الى جانب إسرائيل، بل دولة بدلا من إسرائيل» (في كتاب آري شبيط «تقسيم البلاد» 2005).
ليس مفاجئا أن نتنياهو لم يعرض خريطته وبرنامجه في أي يوم من الأيام على الرئيس براك اوباما. موقفه كان بعيدا جدا عن المعايير التي تم الاتفاق عليها في انابوليس. ترامب، جارد كوشنر، ودافيد فريدمان كانوا «طبق الاجار» المناسب لتطوير رؤيته، التي تمت بلورتها مع اليمين المسيحاني الوطني المتطرف برئاسة نفتالي بينيت واييلت شكيد. الطاقم الأميركي عمل على ذلك، ونشر اقتراحه.
وعلى الرغم من أن صائغي «صفقة القرن» اختاروا عنوان «حل الدولتين»، إلا أن الاقتراح كان مسا خطيرا بكل ما تم انجازه حتى الآن. الخطاب السياسي في إسرائيل هو عودة لـ 15 سنة الى الوراء، الى وهم امكانية التوصل الى اتفاق بدون تنازل عن الضفة الغربية؛ ويمكن أن يعود الخطاب الفلسطيني الى الخلف مدة 100 سنة؛ السعي الى دولة واحدة مع أكثرية عربية (قبل عودة اللاجئين).
في تفاصيل الاقتراح، التي تختلف جوهريا عن أسس انابوليس، تم بصورة متهكمة استخدام مفاهيم ميزت خطاب السلام حتى عودة نتنياهو الى الحكم في العام 2009: دولتان، تبادل للأراضي، دولة منزوعة السلاح، عاصمة فلسطينية وما شابه. هذا يدل على الجهل المهني في مجال الأمن والجغرافيا والقانون. لا توجد أي جهة مهنية أميركية في مجلس الأمن القومي أو في وزارة الخارجية لم تكن شريكة في إعداد هذا الاقتراح.
«الدولة» الفلسطينية المقترحة هي منطقة بدون تواصل جغرافي وبدون حدود خارجية خاصة بها، ما يحولها الى جيب واحد كبير مع حدود طولها تقريبا 1400 كم – 1.5 ضعف طول حدود إسرائيل الآن. داخل هذا الجيب سيكون 15 جيبا إسرائيل (مستوطنة)، داخل إسرائيل سيكون 54 جيبا فلسطينيا (قرية).
تعلمنا التجربة الدولية أنه باستثناء حالة هولندا وبلجيكا فان الجيوب ليست حلا قابلا للتطبيق بين طرفين لهما تاريخ عنيف. سيتحول الجيش الإسرائيلي الى جيش للدفاع عن الجيوب، ولن تسمح الحدود المتعرجة بوجود انظمة اقتصادية منفصلة ولن تسمح للفلسطينيين بالانفصال عن الغلاف الضريبي المقيد القائم الآن.
نصف الأراضي التي ستضم الى إسرائيل هي بملكية خاصة فلسطينية، الأمر الذي يقتضي ترتيبات، لن تكون في متناول إسرائيل. الاقتراح بأن تكون «العاصمة» الفلسطينية في الأحياء التي تقع خارج أسوار القدس – كفر عقب، سميرا ميس، مخيم شعفاط للاجئين، بضم قرية أبوديس – غير مناسب من أي ناحية. في هذه الأحياء البناء غير مخطط وبدون معايير، ولا توجد فيها بنى تحتية ومؤسسات عامة، ولا تقع على خطوط المواصلات الرئيسية، وهي غير قريبة من مراكز الاقتصاد ذات الصلة.
يجب على «صفقة القرن» أن يتم حفظها، وأن تختفي. لن يكون لها شريك عربي. الرد العالمي يدلل على أنه ليس فيها ما من شأنه أن يشرعن ضماً إسرائيلياً ما. تداعياتها من شأنها أن تلحق بإسرائيل ضرراً كبيراً. هي تريد منح شرعية للوضع القائم الذي فيه يتواجد نظامان قانونيان مختلفان على قطعة الأرض ذاتها، على أساس معيار اثني، ويضاف إلى ذلك ضم، سيحوله الى أبرتهايد. أو حسب أقوال بن غوريون في العام 1948 سيحوله الى ديكتاتورية الأقلية.
الصفقة تضر جدا بـ م.ت.ف التي منذ العام 1988 وهي تحاول أن تقود خطابا سياسيا من اجل حل النزاع على حساب الكفاح المسلح. ستدفع هذه الصفقة باتجاه إلغاء التنسيق الأمني مع إسرائيل. وهي تضر بقيمة المواطنة باقتراحها نقل مواطني إسرائيل العرب الى فلسطين. وهي تمس سلطة القانون وحق الملكية بشرعنتها لبؤر استيطانية غير قانونية أقيمت على أراض فلسطينية مسروقة. وأخيرا، ستشجع هجرة فلسطينيين من الأحياء التي تقع خارج الجدار الى داخل مدينة القدس، وتجبر على القيام بهجرة يهودية عكسية، وتغيير الميزان الديمغرافي الذي يتطور لغير صالح اليهود منذ 52 سنة.
يمكن أن نرى في اقتراح ترامب شرعنة للضم، حيث إن ضما جزئيا أحادي الجانب من قبل إسرائيل سيضطرها في نهاية المطاف الى ضم جميع الضفة، والتدهور نحو مواجهة عسكرية وسياسية متواصلة، والى حدوث شرخ عميق في وعي الإسرائيليين والإضرار بشدة باقتصادها. الحكمة يجب أن تأتي. كل من يعتبر نفسه بديلا للحكومة الحالية يجب عليه رفع صوته وتبني المبادئ التي تم الاتفاق عليها في انابوليس 2008، والتي ستمكن من تسوية النزاع.

 عن «هآرتس»