بوتين يعتمد على المرتزقة لاستعادة النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وإفريقيا

حجم الخط

بقلم: بينوا فوكون وجيمس مارسون

 

في تشرين الأول الماضي، انتشر عشرات من قوات المرتزقة المسلحين في ليبيا بعد وصولهم عبر اثنين من موانئ النفط الليبية. استجلب تلك القوات لواء ليبي منشق، لتدعمَ قواته المتمردة بعد ذلك في انتزاع السيطرة على المنطقة الشرقية الغنية بالنفط من الحكومة الليبية المعترف بها أممياً.

بعد انتهاء القتال، وصل وفد من مديرين تنفيذيين كانوا يعملون في قطاع التعدين والنفط وتعود أصولهم إلى دول سوفييتية سابقة بحثاً عن عمل مع المتمردين الذين باتوا يسيطرون الآن على الموانئ، وذلك وفقاً لما تظهره سجلات الهجرة الليبية.

بعد ثلاثة عقود تقريباً من انهيار الإمبراطورية السوفييتية، يحمل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على عاتقه مهمةَ إعادة بناء نفوذ موسكو الدولي في الشرق الأوسط وإفريقيا، وتعتمد الحملة، في جزء منها، على بناء تحالفات مع دول نامية خارج القنوات الرسمية، غالباً من خلال وكلاء مثل متعهدي شركات أمن خاصة وشركات تجارية ومستشارين، وفقاً لمعلومات مصدرها أشخاص ذوو صلة ومسؤولو أمن أوروبيون.

يتزامن النشاط الروسي في الشرق الأوسط وإفريقيا مع تراجع دور الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في تلك المناطق، وقد أخذ وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، خلال جولة شملت ثلاث دول إفريقية، مؤخراً، يكرر القول إن إدارة ترامب تدرس تخفيض عدد القوات العسكرية الأميركية في غرب إفريقيا.

لفتت الحملة الروسية انتباه المسؤولين الأميركيين والأوروبيين الذين أخذوا يشعرون بالقلق من النفوذ الروسي المتنامي في مختلف المناطق، وقال كبير المبعوثين الأميركيين في سورية، في وقت سابق من هذا الشهر، إن المتعاقدين العسكريين الروس يخوضون مواجهات متوترة مع القوات الأميركية في سورية.

كما حذّر الجنرال الأميركي ستيفن تاونسند، رئيس القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا، مؤخراً، من نفوذ روسيا المتنامي في منطقة تزداد أهميتها لكونها مصدراً للموارد الطبيعية، وكتب تاونسند في بيانه إلى لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي: "إن الشركات العسكرية الروسية الخاصة لها تأثير مُزعزع للاستقرار في إفريقيا، حيث تُوظّف في كثير من الأحيان لتأمين استثمارات روسية على حساب الأفارقة، ولدعم أنظمة فاسدة، والتأسيس لنفوذ عسكري روسي أوسع على الصعيد العالمي".

ومع ذلك، فقد قال الكرملين، إن أهدافه في إفريقيا والشرق الأوسط هي المساعدة في محاربة التطرف، وتنمية الاقتصادات الإقليمية، ونفى أي صلة له بمتعاقدي أمن خاصين.

روسيا، التي هُمِّشت في ليبيا بسبب ارتباطاتها بزعيم ليبيا المخلوع، معمر القذافي، عادت في غضون بضعة أشهر فقط لتصبح لاعباً محورياً هناك، وفي كانون الثاني، استضاف بوتين محادثات في موسكو بين الجنرال المنشق ورئيس الحكومة الليبية المعترف بها دولياً، ثم تلاها بحضور قمة خاصة بليبيا في برلين. ومع ذلك فلم يتفق الجانبان بعد على وقف لإطلاق النار.


أسباب دعم حفتر
الحملة العسكرية المدعومة روسياً على الحكومة الليبية يمكن أن تمنح روسيا موطئ قدم في دولة فاشلة إلا أنها تعد مصدراً مهماً للطاقة، ومعبراً رئيسياً لطرق الاتجار غير المشروع في البشر والمخدرات والأسلحة وتهريبها إلى أوروبا. ويشعر المسؤولون الأوروبيون بالقلق إزاء الحالة الأمنية غير المستقرة للأمن الليبي، ويُعزى ذلك جزئياً إلى أن المناطق الواقعة جنوب البلاد هي مناطق حرب ومحاضن للجماعات الإرهابية.

وقال جوزيف بوريل، منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، في كانون الثاني، إن التدخل الروسي ربما قوّض جهوده المعنية بالتوسط من أجل التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتحاربة في ليبيا يحول دون استخدام القوة العسكرية، وقال وزير الداخلية الليبي، فتحي باش آغا، إن "ليبيا بوابة كبرى لإفريقيا، كما أنها أيضاً المدخل لجنوب أوروبا".


الإنكار جزء من الاستراتيجية
ومع ذلك فقد نفى بوتين وقوف الحكومة الروسية وراء أي من مقاولي القطاع الخاص في ليبيا، وقال في كانون الثاني، "إذا كان ثمة مواطنون روس هناك، فإنهم لا يمثلون مصالح الدولة الروسية، ولا يتلقون تمويلاً من الدولة الروسية".

لكن باش آغا يقول، إن المرتزقة الروس موجودون في ليبيا بموافقة الكرملين، مستشهداً باجتماع عُقد في موسكو بين اللواء الليبي المنشق من جانب ووزارة الدفاع الروسية ومتعهد قوات المرتزقة الروسية.

خلال الحرب الباردة، أنفق الاتحاد السوفييتي مليارات الدولارات على مساعدات عسكرية لحلفائه الأفارقة، إلا أن انهيار الحكم الشيوعي في أوائل التسعينيات أجبر روسيا على التراجع عن دورها الواسع على الساحة العالمية.

الآن، وفي الوقت الذي تقلصت فيه القوة الاقتصادية والعسكرية الروسية، فإن مساعي روسيا لممارسة النفوذ السياسي تشمل شركات الأمن الخاصة والشركات التي تسعى للوصول إلى موارد مثل النفط والذهب والماس، وفقاً لمسؤولي الأمن الأوروبيين الذين يراقبون تلك المجموعات. ويقول هؤلاء الخبراء، إن الشركات الخاصة كانت الحل بالنسبة إلى الكرملين.

حازت شركة روسية مؤخراً على عقدٍ للتنقيب عن الذهب في السودان، حيث يشرف متعهدون تابعون لها أيضاً على تدريب قوات سودانية، وفقاً لوزارة الخارجية الروسية ومسؤولي الأمن الأوروبيين.

وفي تشرين الأول، سافر 43 رئيساً إفريقياً إلى منتجع سوتشي الروسي لحضور قمة "روسيا إفريقيا" الأولى. وعقد القادة تشابكات مع شركات حكومية روسية عاملة في مجالات الدفاع والتنقيب عن الغاز والنفط، واشتروا ما قيمته 12.5 مليار دولار من السلع والمعدات الزراعية الروسية، وعقود المصافي والسكك الحديدية.

برزت تكتيكات موسكو خلال تدخلاتها في شرق أوكرانيا في العام 2014، حيث عمل الكرملين مع جماعات مسلحة يقودها رجال أعمال روس تربطهم علاقات سياسية بموسكو.

وحازت شركات يملكها صاحب المطاعم السابق، يفغيني بريغوزين، على عقود بملايين الدولارات من تعاقدات توريد الأطعمة والإنشاءات لصالح القوات المسلحة الروسية. ثم أنشأ بريغوزين "مجموعة فاغنر"، وهي شركة عسكرية خاصة، وفقاً لمسؤولين أمنيين أوروبيين.


البداية في أوكرانيا
بعدها أسس بريغوزين أيضاً شركة استشارات سياسية، هي "وكالة أبحاث الإنترنت"، والتي تقول وزارة العدل الأميركية، إنها كانت وراء مساعي التدخل الروسية لبث الفتن والإشاعات بين الأميركيين في الانتخابات الرئاسية الأميركية، العام 2016.

وقال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بسكوف، إنَّ مجموعة فاغنر "لا علاقة لها بدولة روسيا ولا بحكومتها ولا وزير دفاعها، ولا الخدمات الروسية الخاصة أو الكرملين"، ومع تراجع حدة القتال في أوكرانيا في العام 2015، صَرَفَت فاغنر تركيزها إلى سورية حيث حاربت في صف الرئيس بشار الأسد، وربحت شركات رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوزين في المقابل امتيازات نفط وغاز، ولم يرد بريغوزين ولا محاموه على طلب التعليق.

وحدث أول اقتحام روسي لإفريقيا منذ عهد الاتحاد السوفييتي قبل عامين، وتحديداً في جمهورية إفريقيا الوسطى، وهي مستعمرة فرنسية سابقة غنية بالمعادن، إذ كانت إفريقيا تجذب الحكومات والشركات الأجنبية المتعطشة للموارد. وقد أصبحت كذلك منبعاً للإرهاب ومشكلات الهجرة.

ففي أواخر العام 2017، أقنعت موسكو الأمم المتحدة بالسماح لروسيا بتولي مهمة تدريب جيش جمهورية إفريقيا الوسطى، الذي كان يقاتل ضد قوات المتمردين، ودعم رئيسها الضعيف فوستان - آركانج تواديرا.

ووصلت أول دفعة من البعثة الروسية - وكانت تتألف من عدة عشرات من المرتزقة الروس - في كانون الثاني 2018 على متن طائرة عسكرية روسية مع صناديق من الأسلحة الآلية. ووفقاً لمسؤولين شاهدوا وصولهم، لم يكن معظمهم جزءاً من القوات المسلحة الروسية، ولم يرتدوا الزي ولا الشارات الرسمية العسكرية.


موطئ قدم في إفريقيا الوسطى
وحين وافقت الأمم المتحدة على المهمة، لم توضح موسكو أنها سترسل متعاقدين من القطاع الخاص وليس من جنودها النظاميين؛ وهو الأمر الذي فاجأ مسؤولي الأمم المتحدة، حسبما ذكرت مصادر مطلعة على المسألة، وقال متحدث باسم بعثة الأمم المتحدة في إفريقيا الوسطى إنَّ القوات الروسية كانت تنسق مع الآخرين للمساعدة في إحياء قطاع الأمن في الجمهورية الإفريقية.

ويُقدِّر مسؤول أمني أوروبي عدد الجنود الذين تنشرهم روسيا هناك الآن بما يزيد على 235 فرداً؛ ما يمنحها نفوذاً أكبر مما حظيت به أي جهة أجنبية هناك منذ رحيل الاحتلال الفرنسي في العام 1960. ويبدو أنَّ كبير الروس في الدولة الإفريقية هو فاليري زاخاروف، وهو ضابط خدمات أمنية متقاعد، سافر إلى إفريقيا الوسطى قبل عدة أشهر من وصول القوات وأصبح كبير مستشاري الشؤون الأمنية للرئيس تواديرا.

وفي حديث مع زاخاروف، قال، إنه ليس جزءاً من بعثة الأمم المتحدة الرسمية هناك، ويعمل لصالح الرئيس تواديرا وليس روسيا. ووصف علاقته بالحكومة الروسية بقوله، "لا يوجد شيء يُسمى (ضباط خدمات أمنية سابقين)".

فيما قال المتحدث باسم الكرملين، إنَّ زاخاروف "لا علاقة له بالحكومة الروسية أو سفارتنا أو بالمخابرات الروسية". وقال، إنَّ روسيا مهتمة بتطوير علاقاتها مع جمهورية إفريقيا الوسطى.
وفي ساحة مُغبَّرة بالقرب من العاصمة بانغي، في الصيف الماضي، مرن المدربون الروس عشرات الجنود التابعين لحكومة إفريقيا الوسطى المسلحين بالبنادق والسواطير. وقال زاخاروف، بينما يقف في مكان قريب، إنَّ القوات الروسية تتلقى رواتبها بموجب ترتيبات خاصة مع وزارة الدفاع الروسية. لكن رفض الكشف عن مزيد من التفاصيل.

من جانبها، تحقق مصلحة الأمن في أوكرانيا، وهي وكالة الأمن والاستخبارات الرئيسية في ذلك البلد، في شأن الجماعات العسكرية الروسية شبه الخاصة التي تقاتل في شرقي أوكرانيا. وتقول كييف إنَّ العديد من الجنود الروس الذين أُرسِلوا إلى أفريقيا كانوا يحاربون سابقاً في أوكرانيا مع شركة فاغنر.

وقال إيهور هسكوف، رئيس أركان مصلحة الأمن، "تعد هذه جبهة مناسبة. إذ تتفق الطموحات الجيوسياسية لروسيا مع أطماع" الدائرة المقربة للرئيس بوتين.

ووفقاً لمسؤولين أمن غربيين، انتقل المدربون الروس إلى الجزء الذي يكاد يُشكِّل 80% من جمهورية إفريقيا الوسطى والذي يخرج عن سيطرة الحكومة. ومع انتشار الروس في إفريقيا الوسطى، منحت حكومة الرئيس تواديرا عقود تعدين لشركات روسية.

أما في ليبيا، فيمكن لتدخل روسيا أن يمنحها موطئ قدم في مركز رئيسي للطاقة والهجرة يقع بالقرب من أوروبا. وتأتي ليبيا ضمن كبار مصدري النفط والغاز الطبيعي إلى أوروبا، لكن معظم احتياطياتها - وهي صاحبة الاحتياطي الأكبر في إفريقيا والتاسع على مستوى العالم - لا يزال لم يُستثمَر.

بعد أن خُلع القذافي، الديكتاتور الليبي والحليف الروسي، في العام 2011 على يد المتمردين المدعومين من الغرب، قال بوتين، إن الولايات المتحدة وحلفاءها تجاوزوا اختصاصاً للأمم المتحدة، وقد همشت الحكومة الليبية الجديدة روسيا.

منذ ذلك الحين انسحبت الولايات المتحدة من ليبيا وعادت روسيا. ووفقاً لمسؤول أمني ليبي، حضر فايز السراج، رئيس وزراء ليبيا، قمة سوتشي وناقش شراء مليون طن متري من القمح الروسي.

وتساعد موسكو في الوقت نفسه الجنرال خليفة حفتر، الذي يقود الفصيل المتمرد المُسمى بالقوات المسلحة الليبية، من خلال طباعة النقود الليبية من أجل حكومته الانفصالية والترحيب به على متن حاملة طائراتها، وفقاً لمسؤولين في الحكومتين الروسية والليبية.

وتمرَّد حفتر، القائد السابق في جيش القذافي والذي تلقى تدريباً سوفييتياً، ضد حاكم ليبيا الجديد في العام 2014، موحداً الميليشيات المتفرقة للسيطرة على رقعةٍ كبيرة من شرق ليبيا. وفي 2018، وضع حفتر قبضته على معظم الموانئ الرئيسية لتصدير النفط في البلاد. والعام الماضي هاجم طرابلس.

ومكَّنت الموانئ حفتر من السيطرة على تدفُّقات النفط إلى أوروبا ووفَّرت له نقطة انطلاق لشنِّ الهجمات على القوات الحكومية. ويوسِّع المسلحون نطاق نفوذهم في المنطقة، المعروفة بـ"الهلال النفطي"، حيث يكمن 85% من الاحتياطي الليبي. ولطالما هيمنت الشركات الأميركية على المنطقة، إلى أن دفعتهم الحرب الأهلية إلى المغادرة.

في منتصف العام الماضي، جلبت قوات حفتر الشركات العسكرية الروسية إلى ميناءين لتدريب الجنود وشن الهجمات، وفقاً لمسؤولين في النفط والأمن الليبي. وقال وزير الداخلية الليبي، فتحي باشاغا، إن الروس كانوا تابعين لفاغنر، وقال باشاغا، الوزير في الحكومة المُعترف بها دولياً، "من يتحكَّم في المنطقة يتحكَّم في حقول النفط".

وفي كانون الأول، سمحت إدارة حفتر لمجموعةٍ من رجال الأعمال الروس والبيلاروس بزيارة معقله الشرقي في بنغازي، وفقاً لقائمة بالقادمين إلى مطار المدينة. وكان من بين الزوار، رئيسٌ تنفيذي روسي لشركة تجارة نفطية ومديرون في شركات روسية متخصصة في مشروعات التعدين والوقود للشركات الحكومية.

في العاصمة الليبية طرابلس، التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة، اعتقل ممثلو الادعاء استشاريَّين سياسيَّين روسيَّين، بدعوى أنهما حاولا زعزعة استقرار الحكومة ودعم المعارضة، بما في ذلك ابن القذافي وحفتر. وادعوا أن الرجلين كانا على صلة بمجموعة بريغوزين للبحث على الإنترنت، وفقاً لأشخاص مقربين من التحقيقات.

وأنكر الكرملين وجود جنود روس ينفذون عملياتٍ في ليبيا. وقال مسؤولون ليبيون إن الطبيعة السرية للعمليات العسكرية التابعة لموسكو تعني إمكانها إنكار وجودها في ليبيا، وقال باشاغا، "ستقول روسيا إنه لا علاقة لها بمجموعة فاغنر … سيقولون إنها شركة أمن".

عن "وول ستريت جورنال"