البحث عن نظام عالمي جديد

حجم الخط

بقلم: الدكتور ناجي صادق شرّاب

 

لم يعد النظام العالمي تحكمه نفس المتغيرات والقواعد التي شكّلته منذ الحربين العالميتين، فالعالم يشهد تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية وأمنية كثيرة، تطال بنية النظام الدولي القائم، وتعمل على تغييره.


ولعل مخرجات الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي باتت المتغير الرئيسي في التحولات نحو النظام العالمي الجديد. فالنظام الدولي يتأثر وتحكمه عوامل كثيرة تؤثر في بنية القوة، وفي ماهية الفواعل الجدد، وفي القرارات والسياسات المنظمة له. فاليوم نشاهد تحولاً كبيراً في الفواعل الحاكمة للنظام الدولي، ففي النظام الذي ساد منذ معاهدة وستفاليا 1648، وحتى بداية نهاية الحرب العالمية الأولى، حكمت هذا النظام الدولة القومية ممثلة في الدول الأوروبية؛ بل إن مخرجات هذا النظام المتمثلة في عصبة الأمم كانت أوروبية.


وبعد الحرب العالمية الثانية برز نظام دولي جديد، تمثلت تغيراته في تراجع دور الدول الأوروبية لتفسح المجال أمام بروز قوتين رئيسيتين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، وما لحق بهما من بروز سياسة الأحلاف التابعة كحلف الناتو، وحلف وارسو، وبقي هذا النظام قائماً حتى عام 1991 مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وبروز معالم نظام دولي جديد بأحادية القوة الذي تهيمن على قمته وهي الولايات المتحدة، وهو النظام الذي تحدث عنه الرئيس بوش الأب، بعد حرب الخليج الأولى أو الحرب على العراق عام 1991، ولكن سرعان ما بدأت تظهر عوارض التغير والتبدل في بنية هذا النظام، مع بروز دور القوى الصاعدة مثل الصين والهند، ومحاولة روسيا استعادة دور الدولة العظمى. 


ومما سرع من عملية التحول في مخرجات الثورة الصناعية الكبرى، والتغير في مفهوم القوة، أنه لم تعد القوة الصلبة فقط هي المحدد لقوة الدولة؛ بل ظهر دور القوة الناعمة، والقوة الذكية والقوى السيبرانية أو الحرب الإلكترونية. ومن مظاهر التغير أيضاً، بروز دور الفواعل من غير الدول كالحركات الإسلامية مثل طالبان و«داعش» وغيرها، وظهور الحركات الشعبوية القومية والجماعات الإرهابية، ومظاهر التراجع في دور الولايات المتحدة وانسحابها من العديد من الاتفاقات الدولية والمنظمات الدولية كاتفاق المناخ، وبروز شعار «أمريكا أولاً» مع إدارة الرئيس ترامب، وبداية حرب جديدة بين الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى مثل الصين وكندا وحلفائها في الغرب. 


ومن تجليات الصراع الدولي صعود اليمين المتطرف في أوروبا، الذي يوظف في مواجهة «الإسلاموفوبيا» ويتضمن قضية اللاجئين ذات الطابع العالمي، وتنامي دور الصين في إفريقيا وأمريكا اللاتينية خارج مجالها الحيوي. وكما يشير كوفيس رايت خبير العلاقات الدولية، فإن أسباب ودوافع الصراع الدولي تعود إلى الرغبة في التوسع والسيطرة، ودعم نظام التحالفات الدولية، إلى جانب بروز قضايا تفتح أبواباً جديدة في الصراع الدولي، وتشكل تحدياً في الحرب السيبرانية مثل مخاطر العملات الافتراضية على النظام العالمي، وتدمير التحويلات الآمنة، وتأمين الممرات الآمنة للإرهاب والتطرف.


ولا شك في أن محصلة العلاقة بين هذه المحددات كفيلة بأن تبلور أو تمهد لنظام عالمي جديد، ما زلنا نعيش مخاضاته، لكن من المبكر القول إننا قد دخلنا فعلاً مرحلة نظام دولي جديد؛ لأن هذا سينعكس على حل العديد من القضايا الدولية، وعلى طبيعة العلاقات بين الفواعل، وعلى قيود استخدام القوة. ولا شك في أننا أمام عالم جديد من تقاسم مناطق النفوذ في العالم.

* استاذ علوم سياسية - غزة