يبدو مظهر رجل الأمن الحمساوي وهو يجبر الشاب الذي خرج في ذلك المساء مع مئات المتظاهرين في رفح وغيرها من المدن الفلسطينية في قطاع غزة، احتجاجاً على استمرار مشكلة انقطاع التيار الكهربائي، على التوقيع على تعهد بعدم المشاركة مرة أُخرى في مثل هذه التظاهرات مثيراً للشفقة، فيما يبدو المشهد كله «سرياليا» إلى حدود بعيدة، فمشكلة الكهرباء ما زالت قائمة منذ ثماني سنوات، وبشكل لا مثيل له في كل أرجاء الدنيا، ورغم أن المظهر العام هو انقطاع التيار الكهربائي، ذلك أن ساعات الوصل أقل كثيرا من ساعات القطع، وتتراوح عادة بين ربع وثلث ساعات اليوم، 6 _ 8 ساعات وصل من أصل الأربع وعشرين ساعة، ورغم أن المعاناة مستمرة منذ زمن طويل، ورغم أنها أيضا واحدة من سلسلة من المشاكل التي تثقل كاهل الناس، إلا أن أهل غزة صبروا كثيرا وطويلا، وبات من حقهم أن يعلنوا وجعهم، وان يقولوا : آه !
الأمر الذي يثير الاستغراب الشديد من تصرف حماس، كما ذكر تقرير مركز الميزان لحقوق الإنسان المعروف بنزاهته وحياديته وموضوعيته، والذي شرح كيف أن أجهزة حماس تجبر المواطنين على توقيع تعهدات بعدم الاحتجاج ضد استمرار أزمة انقطاع التيار الكهربائي، هو أن أحدا من المتظاهرين لم يتعرض لـ «حماس» أو رفع شعارا يندد بحكمها لغزة، أو طالب باستجابتها لمطلب المصالحة وإنهاء الانقسام، بل إن الشعارات كانت مهذبة جدا، منها من قالت : دعونا نتنفس، ومنها من قالت : لا تكونوا عونا للاحتلال في حصار غزة بانقطاع الكهرباء، فيما كانت غالبية الشباب ترفع شموعا مشتعلة!
لكن يبدو، كما يقول المثل : اللي على راسه بطحة بيحسس عليها. على أي حال، بالعودة إلى لب الموضوع، ورغم أن البعض يفضل أن يريح نفسه، ويجلس على مقعد «الصليب الأحمر» ويقول بأن للأمر علاقة بالمناكفة السياسية بين «فتح» و»حماس»، رغم كل هذا لابد من ملاحظة أن رفح أولا والوسطى ثانيا وبعض مناطق مدينة غزة هي التي تظاهرت أخيرا، حيث كان يجب التظاهر منذ سنوات، ذلك أن رفح تتلقى معظم حصتها من الكهرباء من الخط المصري الذي يعتبر احد مصادر ثلاثة لتمويل غزة بالكهرباء، وهو بات أكثر انقطاعا، بسبب الوضع الأمني المعروف في سيناء، ثم هناك الخط الإسرائيلي الذي يمد القطاع بنحو 200 ميجاوات، وهذا تقتطع إسرائيل فاتورته أولا بأول من فاتورة المقاصة مع السلطة، ويبقى ثمن السولار الذي يقوم بتشغيل المحطة المحلية بغزة، وهذا يخضع لما يمكن وصفه بالشد بين «حماس» و»فتح».
فان قامت «حماس» التي تجبي أصلا من المواطنين ما يترتب عليهم من فواتير للكهرباء، بتحويل أثمان الوقود لرام الله قامت الثانية بتحويل السولار، وإلا تأخر الوقود وتوقفت المحطة عن التشغيل !
قبل أيام تساءل محمد العمادي، السفير أو الوزير القطري الذي يبدو انه معتمد «لإدارة شؤون غزة» في الحكومة القطرية، عن مغزى «افتعال» أزمة الكهرباء حين يكون موجودا بغزة، وانتشرت عبر الإعلام اقتراحات عديدة عن محاولة قطر حل مشكلة كهرباء غزة، وذلك من خلال أنبوب حسب اقتراح طوني بلير _ إياه، مع استعداد قطر لتمويل المشروع، وبذلك تكون غزة أول مستهلك للغاز الإسرائيلي المكتشف حديثا في البحر المتوسط، بدلا من أن تستهلك غازها هي الذي تمنعها إسرائيل من استخراجه، ويقف الانقسام حائلا أو على الأقل مبررا دون استكمال تنفيذ الاتفاقيات الفلسطينية مع الشركات الدولية باستخراجه واستثماره.
ما يثير الاهتمام هنا، هو أن توسط قطر لدى إسرائيل لمد أنبوب غاز إسرائيلي لغزة، حسب ما اقترحه «مسوق الغاز الطبيعي في الشرق الأوسط» طوني بلير، يشبه توسط تركيا المعلن عنه قبل أسابيع لحل مشكلة الحصار عبر ميناء عائم أو ممر مائي يصل غزة بقبرص، حيث تساءلنا حينها عن دور قطر، في ذلك الحل؟!
كذلك التساؤل، حول تدخل قطر، في حين أن هناك سلطة فلسطينية، من صلاحياتها أن تجد الحلول للمشاكل المعيشية التي يواجهها سكان المناطق التي تقع تحت ولايتها، لكن «حماس» تفضل دائما أي وسيط خارجي _ خاصة إذا كان تركيا أو قطر أو الإخوان _ على السلطة الفلسطينية، ورغم ذلك تتشدق بحرصها على المصالحة وعلى وضع حد للانقسام !
لا يكفي «حماس» أن تواجه بمشكلة مثل مشكلة الكهرباء عجزت عن حلها طوال 8 سنوات، بما يؤكد عجزها التام عن تولي مسؤولية الشعب الفلسطيني، وقيادته إلى آفاق الحرية والاستقلال، وهي العاجزة عن «إدارة» بلدية، أو عن شق طريق أو تقديم خدمات يمكن لشركة خاصة أن تنفذها، حتى تكف عن الاستمرار في المعاندة وركب الرأس، وكما أشار احد ممثلي فتح، بأن حل مشكلة كهرباء غزة أمر بسيط وسهل للغاية، ويتمثل فقط في تسليم المهمة لحكومة التوافق ومن ثم مساءلتها عن حلها فورا، تلك الحكومة التي تساهلت كثيرا مع حماس وطالبتها بمقايضة المعابر بموظفيها لحل مشكلة مرتباتهم، ولم تقبل، لذا ستبقى مشاكل غزة قائمة: البطالة وعدم صرف رواتب موظفيها، والكهرباء والصحة والتعليم، والسكن في الشارع للمدمرة بيوتهم، ذلك أن كل ما في غزة ما زال رهينة بيد مختطفيها بالقوة العسكرية، وحيث أن شباب غزة بدأ يدق جدران الخزان، فان ثورة الغضب قادمة، ولن تكتفي بعمليات الترقيع والترميم، ولن يكتفي شباب غزة بقول آه الوجع، بل سيقول: لا، وسيلفظ كل هذا العبث والجور، كل هذا الظلم والتخلف وكل هذا الركام المتكدس منذ ثماني سنوات في طرق وبيوت غزة وبين حدودها الشرقية وشاطئها الأزرق، وليذهب الغاز الإسرائيلي كما القطري، أدراج الرياح، فمن لم يقبل بمرور أنبوب الغاز المصري لإسرائيل، لن يقبل أن يمر أنبوب الغاز الإسرائيلي لغزة، طالما بقي فلسطيني واحد على قيد الحياة والشرف والكرامة!