حان الوقت لتتسلم إسرائيل مفاتيح الحرم

الون
حجم الخط

باتت هذه انتفاضة صغرى في القدس. "صغرى" لأنها حاليا لا تنتشر الى باقي الضفة، ولكنها شعبية لا تقاد ولا تدار، بل تندلع من الشبكات الاجتماعية، وينفذها اساسا فتيان ابناء 14 - 20. وفي كل سنة يتصاعد العنف مع الأعياد، اما هذه المرة فالتصعيد في الاحداث كبير والذروة لا تزال امامنا: عيد الاضحى يأتي هذه السنة فور "يوم الغفران" وقبل العرش، وينضم إليها الاعلان المرتقب لابو مازن في الامم المتحدة عن فلسطين كدولة تحت الاحتلال – الوصفة التي تضمن أن تكون الاسابيع التالية مضطربة هي الاخرى.
في المركز، مثلما هو الحال دوما: الحرم. لن تجدي كل الشروحات التي تنقل للفلسطينيين في كل القنوات، فالجمهور الفلسطيني مقتنع بان اسرائيل توشك على تغيير الوضع في الحرم. تماما مثلما نشأت في الشبكة الاجتماعية الاسرائيلية طائفة تصدق الشائعة الكاذبة وكأن حرق العائلة في دوما لم يكن عملية ارهاب يهودي، هكذا ايضا في الشبكات الاجتماعية للفلسطينيين تنتشر تقارير كاذبة عن التغييرات التي تعتزم اسرائيل تنفيذها في الاقصى. هذا يكفي لاخراج الشباب الى الشارع.
هناك أيضا لا يدير الاحداث تنظيم مؤطر ما، ولكن هناك سلسلة من الجهات التي تنبش فيها: الحركة الاسلامية في إسرائيل، حركة "شباب الاقصى"، و"حماس" بالطبع. غير قليل من الجهات المثيرة في الحرم هم مواطنون اسرائيليون، يستغلون قدرتهم على الوصول الحر الى المكان.
لم يبدأ الاحتكاك المتصاعد في القدس في الاسابيع الاخيرة. فسكان الاحياء على خط التماس يشعرون به منذ سنين. هناك ميل للتفكير بأن العنف ثار في القدس في ايام "الجرف الصامد" وبعد قتل الفتى محمد ابو خضر. لا شك ان الحدثين شجعا العنف، ولكنه بدأ قبل ذلك، في صفقة شاليت. "المخربون" المقدسيون الستة الذين عادوا الى بيوتهم كانوا عود الثقاب الأول.
لم تكن العاصمة ابدا متحدة، وجدار الفصل الذي بنته أبقى 300 الف فلسطيني في طرفها الاسرائيلي. في الغرب ثمة مدينة مزدهرة تعج بالحياة، وعلى مسافة امتار قليلة من هناك توجد قرى فلسطينية، اصبحت احياء من القدس وليس لها أي قاسم مشترك مع إسرائيل. في الغرب يسيطر القانون الاسرائيلي، وفي الشرق لا يتجرأ القانون على الدخول.
على مدى سنين، اهملت سلطات انفاذ القانون شرق القدس، وخلقت داخل العاصمة جيوبا لا تصل اليها يد القانون. كل تسليم لامر قانوني في صور باهر يتطلب سرية من الشرطة، وكل هدم لبيت في سلوان يطلب حملات كتائبية. في أجواء غياب القانون تربت الشبيبة التي تشعل الآن خط التماس.
ان تشديد العقاب على راشقي الحجارة وفرض غرامات على اهالي القاصرين من راشقي الحجارة فكرة جيدة. حتى هنا، حين كان يعتقل راشق حجارة كان يفرج عنه في غضون ثلاثة ايام ليعود الى تصدر مثل هذه الهجمات. القانون لم يردع ابدا. وعندما يبدأ في أن يكون اكثر ايلاما، قمة احتمال في أن يبقي قسما من هذه الشبيبة في البيوت.
ليست هكذا فكرة تخفيف حدة تعليمات فتح النار للشرطة. فمنذ اضطرابات تشرين الاول 2000 وصدمة "لجنة اور" تعلمت الشرطة كي تتصدى للمشاغبين العنيفين دون أن تتسبب باصابات زائدة. وتتطلب هذه القدرة حشدا لقوات غفيرة، ولكنها اثبتت نفسها كناجعة في مئات الحالات. فمواجهات مثل تلك التي كانت، هذا الاسبوع، في الحرم كانت تنتهي في الماضي بعشرة قتلى وباشتعال إقليمي، اما اليوم فتعرف الشرطة كيف تعفينا من هذه التجربة.
ان التعليمات المتزلفة للجماهير التي اصدرها رئيس الوزراء للسماح للشرطة باستخدام القناصين في القدس تتعارض وكل توصيات محافل الاستخبارات. فهذه كلها ستخلق عدداً كبيراً من المصابين في الطرف الفلسطيني، ما سيشعل نار العنف ويدفعها لتنتشر. ومثلما تعلمنا في الانتفاضة الاولى والثانية فان القتلى الفلسطينيين لا يهدئون الاضطرابات؛ بل العكس يزودونها بالوقود.
قد يتعين على رئيس الوزراء ان يرضي المعقبين على الانترنت، ولكن خيراً فعلت الشرطة؛ إذ لم تنجر الى هناك. اذا كان الجيش الاسرائيلي تعلم كيف يدخل الى مخيم جنين للاجئين، وهو المكان الاكثر عنفا في الضفة، والقيام بالاعتقال مع التسبب بالحد الادنى من المصابين – فان على الشرطة ايضا ان تتعلم كيف تجري الاعتقالات والكمائن في جبل المكبر وفي شعفاط بالحد الادنى من الاحتكاك.
ولكن من المحظور أن تمنع الرغبة في منع الاصابات اسرائيل من أن تحقق سيادتها، والحرم سيكون الاختبار. مطلوب جهد تواجد في الحرم ورقابة كاملة على مداخله من اجل تصفية ظاهرة "الاعتكاف" للشباب ممن يأتون للمبيت في المسجد للإعداد للمواجهة في صباح الغد. كما أن جوقة "المرابطات" الصاخبات، التي ترافق كل زائر اسرائيلي يحج الى الحرم، يجب أن تفكك.
منذ سنين واسرائيل تهمل سيادتها في الحرم وتتخذ سياسة تستند الى الخوف وانعدام الوسيلة. بعد 48 سنة حان الوقت لتأخذ اسرائيل من ايدي الحركة الاسلامية ومن ايدي الاوقاف مفاتيح الحرم، وتسمح بالزيارات وبالعبادة لكل من يرغب في ذلك. اذا توفر ترتيب لصلاة اليهود والمسلمين في الحرم الابراهيمي، واذا كان اليهود ينجحون حتى في الصلاة في قبر يوسف فلا يوجد سبب يمنع أن ينتهج في الحرم نظام يسمح بحرية العبادة للجميع.
ان السلوك السليم سيسمح لموجة العنف هذه بأن تذوي بعد الاعياد. ولكن لا معنى لانتظار رؤيا "مدينة السلام" او الامل في أن يعتمل خط التماس بالاخوة. فالاختلاط الذي خلقه البناء الاسرائيلي في القدس بين احياء يهودية وقرى فلسطينية يستدعي الاحتكاك الدائم، وفي غياب الفصل فان هذا الاحتكاك سيستمر.
في وضع العلاقات بيننا وبين الفلسطينيين – الجيرة الطيبة تتطلب جدرانا عالية. اسألوا سكان "متان" في الشارون كيف كانت جيرتهم مع قرية حبلة قبل ان يفصل السور بينهما. في الاماكن المقدسة يمكن ويجب ان يفرض التعايش بالقوة، ولكن من يقع في وهم الدولة ثنائية القومية مدعو لينظر الى القدس ويفهم ما ينتظرنا.
مثل الكثير من الإسرائيليين، فأنا ايضا أخشى الا أحظى بأن ارى اتفاق سلام آخر في حياتي. ولكن في السنوات الاخيرة اصبحت كلمة "سلام" غير سليمة سياسيا، ويبدو أننا تخلينا ايضا عن التطلع للعيش بسلام. في صباي، كادت تكون كل تهنئة بالسنة الطيبة تتضمن امنية "سنة سلام وامن". هذه كانت سنوات بدت فيها زيارة الرئيس المصري الى القدس كوهم مردود. هذا لم يمنعنا من أن نتطلع الى السلام. في رأس السنة الأخيرة بحثت عبثا عن كلمة "السلام" في جملة التمنيات. لم تكن هناك؛ خسارة. ينبغي النظر الى الواقع نظرة واعية، ولكن هناك حاجة ايضا للتطلع الى تغييره، آباؤنا هنؤوا "السنة القادمة في القدس". حتى عندما بدت القدس لهم أبعد من القمر. يحتمل أننا سنأكل هنا الحراب الى الابد، ولكن محظور علينا أن نتخلى عن الامل.

عن "معاريف"