لطالما استعان اجدادنا في حكاياتهم بالفارس الذي يشق الغبار على ظهر جواده الأبيض ويخلص أهل الحكاية من واقعهم المرير، هكذا تغلغلت البطولة الفردية الخارقة في ثقافتنا، وعندما ترتطم بالواقع نتكفل نحن بحياكة الاسطورة لنغلف بها تفاصيلها المرئية والغير مرئية، ولا نجد حرجاً ونحن نمارس حرفة صناعة الآلهه التي غابت شكلاً وبقيت مضموناً نتوارث ادبياتها من زمن الجاهلية حتى يومنا هذا، الفكرة لدينا باتت رهينة لشخص تخرج علينا صماء غير قابلة للتعديل أو التطوير، لم نعد نطيق الفكر الجماعي لأن فيه انتقاص لدور البطل الملهم، وبتنا نحشر التاريخ رغماً عن أنفه في السيرة الذاتية لأشخاص تعظيماً لهم على حساب شعوبهم، غاب العمل في نطاق المؤسسة دون أن نأسف عليه ودون أن نذرف دمعة واحدة على مؤسسات باتت خاوية على عروشها، وتراجع مفهوم الفعل لدينا من الأمة إلى الشعب وصولاً إلى الفرد.
في اطار ثقافة الفرد هذه وفي ظل حالة التخمة التي يعاني منها الوطن من المسميات والألقاب من الطبيعي أن نصبح بلد المليون قائد، وأن يطفو على السطح مصطلح "قائد بحجم وطن" ونتغزل به أكثر مما فعلت مقدونيا بإبنها الشاب "الإسكندر الأكبر"، الذي جعل من وطنه الصغير "مقدونيا" امبراطورية دانت لها اليونان بعظمتها وفارس بقوتها ولم يدخل حرباً إلا وكان النصر حليفه، فلم نجد لهذا الشاب الصغير تمثالاً في الأكروبوليس يخبرنا بأنه كان قائداً بحجم وطن، ولم يجرؤ التاريخ على منح هذه الصفة لأحد من القادة الذين تمددوا بأوطانهم وصنعوا لها مجداً لا يندثر، بل أن يوليوس قيصر وجد نفسه فرداً مجرداً من كل مجد صنعه لروما وهو يقول "حتى أنت يا بروتس؟".
كيف يمكن لقائد أن يتضخم ليصبح بحجم وطن؟، وهل يعقل لقائد أن يبتلع في جوفة تاريخاً ممتداً من قبله ومن بعده؟، وكيف يكون حال الوطن اذا ما أصبح الكثير من أبنائه بحجمه؟، وهل صفة "قائد بحجم وطن" التي نمنحها على علتها يمكن أن تمنح صاحبها شيئاً من الإطراء والمديح المقبول أم أنها تجعل من الوطن مسخاً منفراً؟، ألا يكفينا كل ما لدينا من الألقاب والمسميات التي نتغلب بتعدادها على الصين كي نضيف اليها ما من شأنه أن يقزم الوطن ويحوله إلى بلد "الواق واق" لتصدق فينا تسميته التي استمدها من ثماره التي كلما نضجت احداها سقطت فمر في تجويفها الهواء محدثاً صوتاً "واق واق" فيما تصل مسامعنا على نحو "قائد بحجم وطن".
لماذا لا نفضي على الوطن جمالاً بأن نجعل القائد بحجم مواطن، يقوم بواجباته حيال وطنه ونراه يفعل كما يفعل المواطن، يمشي في شوارع الوطن يشاطر الناس همومهم وأفراحهم، يمسح على وجه عجوز أتعبته الحياة ويداعب طفلاً يتطلع لحياة أفضل، لماذا علينا أن نتجرع خيبتنا كلما شاهدنا مسؤولاً في دولة غربية يعتمد سلوك المواطن في حياته اليومية؟، لماذا نقبل أن نكون الكومبارس أمام جوقة القائد ونقف بإنتباه كي نسلم من تعنيف مرافقيه؟، وكيف نبرع في اضفاء المزيد من الهالة عليه التي تصل به لمستوى الإله أو اقل قليلاً؟، لماذا نتصرف على هذا النحو الذي نفقد فيه الكثير من آدميتنا؟، ألا يوسع مثل هذا السلوك دائرة النفاق والرياء لدينا ويصبح معها النقد كفراً؟، ألسنا من يتشدق دوماً بأن الأفراد زائلون والوطن باق؟، فلماذا لا نضع القادة وهم كثر لدينا في قالب المواطن ليصبح القائد لدينا بحجم مواطن وليس بحجم وطن؟.