-خبر-كتب:علي جرادات
23 أيلول 2015
شكل انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة نقلة تاريخية في سياق وعي ومجابهة الصيرورة الواقعية للمشروع الصهيوني بعد النكبة: عملية التطهير العرقي الأبشع في التاريخ المعاصر.
ما يفسر تغلغل هذه الثورة في أوساط الشعب الفلسطيني، (خاصة بعد هزيمة 67 وما أحدثته من تهجير قسري)، وصولاً إلى قفزتها النوعية، انتفاضة 87، حيث اشتعل الجيشان الشعبي داخل الوطن، تعبيراً عن إرادة الشعب الفلسطيني وقدرته على تحدي الاحتلال وتحويل انفجاراته وهباته المحلية المتلاحقة، بسرعة مذهلة، إلى انتفاضة شعبية عارمة، أمسكت زمامها "قيادة وطنية موحدة"، ودفعتها قدماً حتى صارت نمط حياة، ومبادرة شعبية كبرى ممتدة، استطاعت أن تحيد القوة العسكرية للاحتلال، وأن تتفوق عليه سياسياً وأخلاقياً، وأن تجعل استعادة "مناطق 67"، وانتزاع هدف "الحرية والاستقلال"، إمكانية واقعية، لكن اتفاق أوسلو قطع سياق هذه الانتفاضة التي ما كان مشروعاً ولا كان منطقياً أن تنتهي بـ"حكم إداري ذاتي محدود".
وأكثر، يتبين الآن، بعد 22 عاما على أوسلو، أنه لم يقطع سياق تلك الانتفاضة، فحسب، بل قطع أيضاً، سياق ثورة ما كان مشروعاً ولا كان منطقياً لقيادتها أن تختار ظرف انهيار "نظام ثنائية القطبية" وشن حرب "عاصفة الصحراء" على العراق توطئة لاحتلاله وتدميره لاحقاً، لحظة لبدء التفاوض المباشر وإبرام اتفاق لا يوقف سياسة الاستيطان والتهويد، ويفرض الراعي الأميركي لإسرائيل، راعياً للتفاوض معها حول قضايا "مرحلة انتقالية"، بينما تم تأجيل قضايا جوهر الصراع: اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود والمياه والأسرى، وتم التخلي، بصورة مجانية متسرعة، عن أوراق القوة الوطنية الأساسية: الانتفاضة الشعبية، والاعتراف بوجود إسرائيل وأمنها، وإلغاء ما يتعارض مع هذا الاتفاق من بنود الميثاق الوطني، وصولاً إلى إحداث تغيير جوهري على خطاب الثورة لدرجة أن يصبح، في محاور أساسية، خطاباً غير ذي صلة بخطابها الحالي.
وأبعد، يتبين الآن أيضاً، كم كان غير مشروع، وكم كان غير منطقي، تصور إمكانية تسوية صراع، حولته نكبة العام 48 وهزيمة 67، (اللتين قلبتا حياة الشعب الفلسطيني رأساً على عقب، وأوقعتا فلسطين، وطناً وشعباً، في قبضة احتلال استيطاني إقصائي)، إلى صراع تناحري شامل ومفتوح، بل اشتباك تاريخي، تصعب، بل تستحيل، "تسويته" بمعنى تهدئته وتغيير أشكاله، (فما بالك بإنهائه)، إلا بتعديل ميزان القوى، (أي توافر عوامل قوة وطنية فلسطينية وقومية عربية وتحررية دولية)، يجبر إسرائيل على تفكيك نظامها العنصري الإقصائي الإحلالي، ومغادرة حلم "الدولة اليهودية"، ويفرض عليها الاعتراف بالحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وجوهرها حق عودة اللاجئين، بوصفهم لب الصراع والقضية، والمادة الأساسية للثورة المعاصرة، والحلقة المركزية في البرنامج الوطني.
لذا، فقد كان من الطبيعي والمنطقي ألا يحصد أوسلو، بالخلل البنيوي متعدد الأوجه الذي تأسس عليه، سوى إدخال المشروع الوطني الفلسطيني الذي أطلقته الثورة المعاصرة في أزمة عميقة.
فحكومات إسرائيل المتعاقبة اتكأت على هذا الخلل وما أحدثه في واقع الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني من شروخ وانقسامات والتباسات، لتسريع عمليات الاستيطان والتهويد والتطهير والتفريغ، ومواصلة مساعي "الأسرلة" للتجمع الفلسطيني في "مناطق 48"، والتفكيك للتجمع الفلسطيني في "مناطق 67"، والتوطين للاجئين، ما يؤكد أن إسرائيل، بعنصريتها السياسية والأيديولوجية، ليست في وارد حتى القبول بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67.
كيف لا؟ وحكومات إسرائيل، على اختلاف أحزابها، ما زالت تتمسك بـ"الدولة اليهودية" التي ينفي إمكانيتها التاريخية والواقعية، التعادل والتشابك السكاني القائم الآن في فلسطين التاريخية، أي فشل المشروع الصهيوني في إقصاء الشعب الفلسطيني من المكان والزمان، حيث انبثق من تحت رماد النكبة والهزيمة، واكتسب هوية وطنية كفاحية في سبيل قضية عادلة، بينما فشلت اتفاقيتا كامب ديفيد ووادي عربة، في تطبيع علاقات إسرائيل مع الشعبين المصري والأردني والشعوب العربية عموماً، بل ولم ينه اتفاق أوسلو نضال الشعب الفلسطيني ضد احتلال فشل في شطب وجوده وما يستولده من إرادة مقاومة تتطلع نحو أهداف أصيلة وجوهرية، تعكس وتعبر عن عناصر الهوية والذاكرة التاريخية والحلم المشترك وموجات النضال المتواصلة، بما يؤكد أن الشعب الفلسطيني الذي شتتته نكبة العام 48 وهزيمة العام 67، إنما يوحده سياق تاريخي مديد، ويشكل بنية مجتمعية وثقافية وسياسية واحدة، لن ينتج إنكارها والإمعان في العمل على تفتيتها، غير تأبيد الصراع وتأجيجه وإعادة إنتاجه.
ولا عجب. فالشعب الفلسطيني، خصوصاً، والشعوب العربية، عموماً، تدرك بحسها العفوي، وترى بأم عينها، أن البنية السياسية والاجتماعية لإسرائيل لا تعطي بالاً للاتفاقات، خصوصاً اتفاق أوسلو الذي دهسته دباباتها وجرافاتها، ولم يبق منه سوى شروطه والتزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية المفروضة على الشعب الفلسطيني الذي يعاني انقسامات نخبه القيادية الفئوية التي نسيت، سيان بوعي أو بجهالة، أن تربط المشروع الصهيوني والمشروع الاستعماري والإمبريالي "الغربي" في المنطقة، ما زال قائماً، وأن الخروج من المأزق الوطني غير ممكن سوى استعادة خيار الوحدة والمقاومة، القادر وحده على توفير مقومات إخراج ملف القضية الفلسطينية من دهاليز التفاوض المباشر العقيم، وتحريره من القبضة الأميركية المعادية، وإعادته إلى هيئة الأمم لتنفيذ قراراتها ذات الصلة لا التفاوض عليها، تمهيداً لاستعادة سياق النقلة التاريخية للثورة المعاصرة، وإحياء برنامجها الوطني، الدولة والعودة وتقرير المصير، كعناصر مترابطة لم يحقق أوسلو الحد الأدنى منها، اتصالاً بإمعان إسرائيل، برعاية أميركية ثابتة، في هجومها السياسي والعسكري والأمني، وفي تسريع عمليات الاستيطان والتهويد والتفريغ والتطهير العرقي المخطط والإبادة الجماعية الممنهجة التي لم يعرف تاريخ البشرية المعاصر لها مثيلاً، بما يعيدنا إلى الأهمية الإستراتيجية لمطالعة: "فلسطين الديمقراطية العلمانية" التي قدمتها، العام 68، الثورة الفلسطينية المعاصرة، بوصفها المطالعة الأعمق وعياً لطبيعة الصراع في صيرورته الواقعية، والإجابة الديمقراطية الشاملة الشافية عن أسئلة تشابكات وتعقيدات وسبل حل تناقض الهوية الوطنية الفلسطينية الكفاحية مع المشروع الصهيوني.
ولمَ لا؟ ما دامت إسرائيل ترفض حق عودة اللاجئين، الخطوة الانعطافية والضمانة الوحيدة لاستئصال أسباب الصراع، وخلق مناخات ثقافية وسياسية جديدة تحرر اليهود، داخل إسرائيل وخارجها، من العنصرية الصهيونية، كما تدعو حتى أصوات يهودية تتخذ من تجربة جنوب إفريقيا نموذجاً ومرشداً.
ولم لا؟ ما دامت هيئة الأمم ترضخ للضغط الأميركي، وتلوذ بالصمت حتى إزاء مطلب توفير الحماية الدولية المؤقتة، كخطوة انتقالية تمهد لخلاص الشعب الفلسطيني من الاحتلال. ولم لا؟ ما دام مشروع التسوية الأميركي لا يعدو كونه غطاء للمشروع الصهيوني لمزيد من الهجوم، ووهماً وخداعاً لتكريس إسرائيل اليهودية العنصرية، بما يصاحبها من عدوان واستباحة وتقتيل جماعي وتسمين مستعمرات ومصادرة أراض، حيث لم يبق بيد الفلسطينيين سوى نحو 15% من عموم مساحة فلسطين، بما لا يترك متسعاً حتى لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على "مناطق 67" التي تحولت إلى معازل جائعة ملحقة بالسوق الإسرائيلية، فيما يجري على قدم وساق تسييجها بأسوار استيطانية وجدران تفصل شمال الضفة عن جنوبها، وتفصلها عن القدس التي جرى ضمها قانونيا وعمليا، بينما تسير على قدم وساق خطة تحويل الانفصال الجغرافي بين الضفة" وقطاع غزة إلى فصل سياسي ومجتمعي، مع ما لكل ذلك من استحقاقات أمنية ومساومات سياسية على حق العودة وحقوق فلسطينيي 48، لتمكين المشروع الصهيوني من احتواء النضال الوطني الفلسطيني، وتحقيق انتصار إستراتيجي آخر يعزز انتصار إنشاء إسرائيل العام 48، ونجاح عدوان العام 67، حيث سيطرت على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وأجزاء من أراضي دول عربية أخرى، وصولاً إلى انتصار الاعتراف بها في اتفاقات "كامب ديفيد" و"وادي عربة" و"أوسلو"، بكلمات مهندس الاتفاق الأخير، شمعون بيرس.
قصارى القول: هذا هو المطلوب، بل المفروض، بعد 22 عاما من تيه خيار أوسلو. التيه الذي يحتاج إلى بث شارة أمل، لا إيغالا في تعميق الانقسامات والشروخ الداخلية، وتعميم مظاهر الإحباط واليأس.
التيه الذي يحتاج إلى وقفة جدية أمام ما آلت إليه القضية الوطنية، وأمام ما يرزح تحته الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات من ويلات على مختلف الصعد.
وبكلمات ثمة حاجة إلى قيادة تاريخية قادرة على أن تعيد للبوصلة اتجاهها الحقيقي.