القصة الكاملة للسلام الضائع بين إسرائيل وسورية

حجم الخط

بقلم: يغئال كيبنيس



"قُبلت مطالبك. ستُسرُّ جداً". قال الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، للرئيس السوري، حافظ الأسد، عندما اتصل به في آذار 2000، وطلب لقاءه في جنيف؛ بعد ثماني سنوات من المفاوضات على اتفاق سلام تاريخي بين سورية وإسرائيل. كانت مطالب الأسد لاتفاق سلام إسرائيلي – سوري معروفة: انسحاب إسرائيلي الى خطوط 4 حزيران 1967، وسيادة السوريين على كل الأرض التي كانوا فيها عشية حرب "الأيام الستة".
"الأمانة في جيبي" أضاف كلينتون، "لا اريد أن استطرد هاتفياً، ولكن ثق بي. أنت ستُسرُّ". ما لم يقله هاتفياً أفاد به كلينتون لمن استدعاه الى البيت الابيض، الأمير بندر، سفير السعودية في واشنطن ووسيط ذو مصداقية بين سورية والأميركيين: يدور الحديث عن انسحاب الى خطوط 4 حزيران، وافق عليه رئيس وزراء إسرائيل، ايهود باراك. سافر بندر الى دمشق مع رسالة الى الأسد، الذي رد: "يعرف كلينتون ما أريد. الله يعرف أن كلينتون يعرف ما أريد". رغم وضعه الصحي الصعب، جاء الأسد الى جنيف بمرافقة وفد كبير ليلتقي في الغداة، 26 آذار 2000، كلينتون. أثقلت صراعات شخصية بين مادلين اولبرايت، وزيرة الخارجية، وبين ساندي بيرغر، مستشار الأمن القومي للرئيس، على الاجواء في الوفد الأميركي، وأشغلته حتى ساعات صباح يوم اللقاء. كما مست باستعداداتهم للقاء الذي اعتبر نقطة انعطافة تاريخية، وكانت الطريقة التي ستعرض فيها الامور على الأسد حرجة.
في الساعة 10:30 اجتمع الفريق الأميركي خارج غرفة المباحثات في الفندق، ونقلت خرائط كبرى الى الغرفة بالخفاء عن رجال الإعلام. وبعد الصور المشتركة اقترح كلينتون تقليص عدد المشاركين في اللقاء. اضافة الى الرئيسين حضره فقط وزيرا الخارجية، اولبرايت والشرع، والمترجمون. وافق الأسد على اقتراح كلينتون أن يبقى أيضا دنيس روس، مبعوثه إلى الشرق الأوسط. لم يطلب تواجد رجل سوري آخر، كما يفترض البروتوكول. ولكنه طلب أن يغادر روس الغرفة فور عرضه الافكار. لم يثق الأسد بحيادية روس.
"أريد أن أعرض اقتراح إسرائيل"، بدأ كلينتون، وبعد أن انتهت كلمات المجاملة، بخلاف عادته، اعتزم قراءتها كما أملاها عليه باراك. فرد الأسد: "حسناً، لن أعلّق الى أن تنتهي، ولكن ماذا بشأن الأرض؟".
"الإسرائيليون مستعدون، كجزء من اتفاق السلام، لانسحاب كامل الى حدود متفق عليها تقوم على أساس خط الرابع من حزيران"، أجاب كلينتون واعتزم الاستمرار.
"خط الرابع من حزيران" ليس خطاً محدداً. هو مفهوم، ومن أجل ترجمته الى خط ينبغي الاتفاق أولاً على المقاييس لتحديده. عودة السوريين الى القرى التي كانت قرب بحيرة طبريا في حزيران 1967 ستبقيهم على مسافة عن خط المياه. وعليه فقد أُضيفت حقيقة أنه بسبب انخفاض مستوى المياه في البحيرة، تراجع خط المياه، وبالتالي حتى لو عاد الأسد الى المكان الذي درج فيه على تغطيس قدميه فانه لن يتمكن من عمل ذلك. كان مفتاح النجاح في عرض الوضع على الأسد دون إثارة خيبة أمله من هذا المعطى. في البداية اعتزم باراك أن يصل بذاته الى جنيف كي يواصل اللقاء السوري- الأميركي في محادثات يتنقل فيها كلينتون بينه وبين الأسد. أطلع باراك الأميركيين على انه عند الحاجة سيكون مستعداً للقاء آخر يعرضه فقط بعد أن يتفق على النقاط الأخيرة في الاتفاق، بما في ذلك تواجد الإسرائيليين في محطات الانذار المبكر في جبل الشيخ. كما اقترح باراك حلاً كان يفترض أن يسوي الصعوبة النفسية للأسد النابعة من الفرق بين ذكرياته وبين حقيقة أن السوريين لن يعودوا، هذه المرة، الى خط المياه حقا. وفي النهاية استجاب باراك للضغط الأميركي، وبقي ينتظر في إسرائيل الدعوة من جنيف ما أن يتبين ان محادثات كلينتون الأسد ستسمح باستكمال المفاوضات.
ما ان تلفّظ كلينتون بالجملة الأولى حتى قاطعه الأسد وسأل: "ما المقصود بحدود متفق عليها؟ هل هذا هو خط الرابع من حزيران 1967؟". لقد بدت الأمور للأسد صياغة تخفي حيلة. وبناء على طلب كلينتون، بسط روس خريطة مفصلة للجولان تستند الى صورة جوية من العام 1967. خط الشاطئ فيها، خط 1967، كان شرقي خط العام 2000. وأُشير في الخارطة أيضا إلى "خط الشاطئ" – تفسير الخبير الأميركي، فريد هوف، لخط الرابع من حزيران. شرقه، على مسافة متغيرة وصلت في هذه المنطقة حتى 400 مترا، تحدد خط الرابع من حزيران الذي اقترحه باراك. "تبقى في يد إسرائيل السيادة على البحيرة وعلى القاطع..."، بدأ كلينتون يشرح وقاطعة الأسد مرة أخرى. "إسرائيل لا تريد السلام! لا مجال للاستمرار"، قال وأغلق الخريطة. طلب كلينتون مواصلة حديثه. استجاب الأسد في البداية بعدم صبر، وبعد وقت قصير اقترح الشرع وقف اللقاء واستئنافه بعد أن يعرض روس واولبرايت عليه الاقتراح.
"ما الذي يمكن عمله أكثر؟"، سأل كلينتون روس قبل أن يستأنف اللقاء. "قليل جدا"، أجاب روس. عندما استؤنف اللقاء مع الأسد، طلب تنازلا ما كي يتمكن من ان يطلب ذلك ظاهرا من باراك أيضا الذي سبق له أن تلقاه. أما الأسد فرفض.
في أيار 1999، قبل نحو عشرة أشهر من اللقاء في جنيف، تغلب باراك على نتنياهو في الانتخابات. بعد ثلاثة أيام من ذلك كتب زئيف شيف في "هآرتس": "مع دخوله مكتب رئيس الوزراء لا بد أنه (باراك) سيجد انه جرّ عملا أوليا مع السوريين، سيوفر عليه زمنا طويلا إذا ما أبدى شجاعة سياسية. ويمكن للمردود أن يكون ليس فقط انسحابا من لبنان وسلاما مع سورية، بل أيضا ابعاد إيران عن شراكة استراتيجية مع دمشق. فوت نتنياهو فرصة كهذه". وبالفعل، من صيف 1997 وحتى ايلول 1998، أدار نتنياهو مفاوضات سرية مع الأسد وترك في يد الرئيس السوري مسودة اتفاق للسلام، بموجبها تنسحب إسرائيل من ارض سورية احتلت في العام 1967 الى حدود متفق عليها تقوم على أساس خط الرابع من حزيران 1967". بل إن نتنياهو طلب القدوم الى دمشق كي يلتقي الرئيس الأسد، ويعرض عليه خريطة الانسحاب. أما الأسد فطلب الحصول على الخريطة مسبقا كشرط لدعوة نتنياهو الى دمشق، وهنا توقفت المفاوضات. "انظر في عينيّ"، دعا اسحق مردخاي نتنياهو، حين طرح الموضوع السوري في المواجهة التلفزيونية بينهما في انتخابات 1999، اما نتنياهو فقد فقدَ التركيز، وأظهرت لغة جسده ما أخفاه. حتى الأميركيون لم يطلعوا على خطوات نتنياهو في القناة السورية إلا بعد أن أخلى مكانه لباراك.
لقد أنهى لقاء كلينتون – الأسد في جنيف ثماني سنوات أدار فيها أربعة رؤساء وزراء مفاوضات مع الرئيس السوري. كل واحد من الأربعة – رابين، بيريس، نتنياهو، وباراك – رأى في اتفاق السلام بين إسرائيل وسورية مصلحة إسرائيلية، وسعى إليه حتى بثمن إعادة الجولان الى السيادة السورية. وأيد قادة جهاز الأمن موقفهم. وحتى بعد وفاة الأسد الاب، في تموز 2000، واصل أولمرت، وبعده نتنياهو، مفاوضات سرية مع ابنه. الخطوة التي قادها نتنياهو مرة أخرى لم تنقطع تماماً الا في آذار 2011، مع نشوب الحرب الاهلية في سورية. "لن يصدق الناس كم بعيدا تقدمنا"، قال لي هوف بعد أن انكشفت قناة المحادثات. هوف وروس كانا الوسيطين الأميركيين اللذين تحركا بين بلفور وقصر الرئاسة في دمشق.
يكثر اليوم الحديث عن المخاطر على إسرائيل بسبب تواجد قوات إيرانية وسلاح إيراني في سورية والتنسيق في محور إيران – "حزب الله"، وسيطرة القوات الشيعية على المجال بين القنيطرة وجبل الدروز، والخطر من ترك أميركا الساحة السورية للاعبين معادين لإسرائيل. حاول رابين أن يمنع هذا الخطر، وكذلك بيريس، نتنياهو، باراك، أولمرت، ومرة اخرى نتنياهو. فهل أخطأ ستة رؤساء وزراء؟ هل أخطأ أيضا معظم رجال الأمن الذين أيدوا المسعى؟

بين التنسيق والهوة
في بداية العام 1993 اجتمعت مصالح سورية، إسرائيل، والولايات المتحدة لتحقيق اتفاق سلام. كما أن زعماء الدول الثلاث بدوا ناضجين للمفاوضات، ولكن وجود هذه الظروف الضرورية لم يكن كافياً. فقد كان ينبغي في الطريق الى السلام التغلب على عائقين: الأول تكتيكي – سياسي والثاني نفسي. بينما نظر الأسد إلى المسيرة من زاوية نظر القناة الإسرائيلية – السورية أساسا تعاطى مقررو السياسة في إسرائيل ايضا مع قنوات مفاوضات اخرى، وعملوا ايضا في القناة الأردنية، وأساسا الإسرائيلية – الفلسطينية.
العائق الثاني كان نفسيا. منذ فترة مبكرة نشأ بين إسرائيل وسورية تفاهم بأن إطار الاتفاق سيكون مشابها لمعاهدة السلام بين إسرائيل ومصر: اعادة السيادة على الجولان الى سورية مقابل الأمن لإسرائيل. وهذا سيكون من خلال تجريد الارض، التي تنسحب منها إسرائيل، من السلاح وضمانات أميركية لتنفيذ الاتفاق وحماية مصادر الماء لإسرائيل. عمليا كان الحديث يدور عن تثبيت مبادئ قرار حكومة الوحدة – الذي اتخذ في 19 حزيران 1967، فور الحرب، والذي طبق في اتفاق السلام الإسرائيلي – المصري وعادت حكومة إسرائيل وصادقت في تشرين الثاني 1993 على ذلك. ولكن عندما جاءت الأطراف لتبلور التفاهمات للاتفاق، اصطدمت بالعائق العاطفي، الذي نبع من عدم المعرفة الكافية للتفاصيل الدقيقة بشأن الجولان، وعلاقات إسرائيل وسورية في الماضي والفجوة القائمة بين ذاكرة كل طرف حول تفاصيل النزاع. ولهذا لم تختفِ الصورة المهددة لاي من الطرفين في نظر الآخر. طالما لم يتم التوصل الى اتفاق سلام امتنع زعماء إسرائيل من تهيئة الرأي العام، بينما لم ترغب سورية في أن تفلت من أيديها الورقة الاساس التي تملكها – دعم عمليات "الارهاب" ضد إسرائيل – وهكذا زادت فقط عداء الإسرائيليين لها. إن التمسك بالرواية وعدم الاعتراف بالحقائق كان يسود أيضا لدى الكثير من مصممي الرأي العام والقيادة العليا في إسرائيل، وفي الولايات المتحدة، وأساسا في سورية. يمكن أن نجد مثالا على ذلك في لقاء وورن كريستوفر في دمشق. فقد جاء وزير الخارجية الى دمشق باحساس من اختراق في الطريق. إذ كان في يده تعهد من رابين للانسحاب من الجولان في اتفاق ينص على مطالب إسرائيل، ولكنه فوجئ من سؤال الأسد: انسحاب كامل إلى أي خط؟ وهو ليس فقط لم يكن لديه جواب بل إنه هو وروس، الذي كان معه، لم يفهما على الاطلاق معنى السؤال. بعد بضعة أشهر فقط عرفا أن الانسحاب الكامل من الجولان يمكنه ان يتم الى عدة خطوط، حتى لو كانت المسافة المادية بينها صغيرة فان هوة عاطفية تفصل بينها. الهوة العاطفية ذاتها التي تحطم فيها لقاء كلينتون – الأسد في آذار 2000 في جنيف.

عن "معاريف"