في الحالة الفلسطينية لا قيمة لإبداع مبدع فلسطيني إن لم يكن إبداعه يلامس هموم الشعب ومتصادما مع الاحتلال ،فكل أديب وفنان فلسطيني يصبح سياسيا مناضلا حتى وإن لم يشأ ذلك ، وإن كنا نُحيل استمرارية القضية الفلسطينية وصمود الشعب الفلسطيني حتى اليوم إلى قوافل الشهداء عبر تاريخ القضية وإلى معاناة الاسرى في سجون الاحتلال وفي سجون عربية ، وإلى صبر ومعاناة الجرحى والمُعاقين والأرامل والأيتام وإلى صمود المقاومين والمرابطين وكل من يتصدى للاحتلال والاستيطان في القدس وكل فلسطين الخ ، إلا أن قضية هؤلاء ومعاناتهم ما كانت تصل للعالم بدون جهود المثقفين وإبداعاتهم في مختلف صناعاتهم : رواية ،شعر،رسم ، نحت ،أغنية ، مقالة وكتاب الخ .
للأدباء والفنانين دور رئيس في حضور واستمرارية القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني وفي الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية ولا يمكن تصور استمرارية الثقافة والهوية الوطنية وفي وصول القضية الوطنية لكل بيت في العالم بدون شعراء وأدباء وفناني فلسطين الذين عشقوا وتمثلَّوا فلسطين بكل تاريخها وجغرافيتها ومناخها وثقافتها وتراثها ،وبإبداعاتهم صاغوا وكتبوا الحكاية والرواية الفلسطينية ونقلوها للأجيال وعبر العالم ،حكاية شعب وتاريخ وهوية ،وقد قال محمود درويش "من يكتب حكايته يرث أرض الحكاية" .
إلى سنوات قلائل كان المثقفون يُنتِجون حالة ثقافية راقية تفرض حضورها وطنيا ودوليا ، وكان للحالة الثقافية الفلسطينية الريادة عربيا بل وتقود الحالة الثقافية العربية وتوجه مسارها وتُحدد أولوياتها . الحالة الثقافية ليست جمعا لمثقفين كلُّ يُغني على ليلاه ، بل هي توحيد وتجميع وصهر كل الإبداعات بكل تصنيفاتها وفي كل أماكن الشتات الفلسطيني لتشكيل مشهد ثقافي إبداعي مستقل عن ذوات وأمزجة المثقفين ، حالة تعبر عن نبض وضمير وهوية الشعب .
كان للحالة الثقافية عناوين ومراكز ابحاث ودراسات ومهرجانات ، وكانت تتجسد في حركة ثقافية فاعلة في السينما والمسرح والرواية والشعر والفنون التشكيلية ،وفي نتاج فكري متميز ، وكانت متجسدة في اتحادات ومنظمات في كل قطاعات الإبداع : اتحاد كتاب فلسطين ،اتحاد الفنانين ،اتحاد الصحافيين ،اتحاد الحقوقيين الخ ، وكان على رأس هذه الاتحاد مثقفون ومبدعون كِبار ،بل كانوا يتنافسون على رئاسة هذه الاتحادات ، وبعض المثقفين والمبدعين شكل حالة ثقافية بشخصه وبقوة حضوره . كانت حالة ثقافية يَحسب لها السياسيون ألف حساب بقدر ما كانوا يحترمون رموزها .
عندما نتكلم عن الثقافة والهوية الفلسطينية لا يمكن أن ننسى الشعراء والأدباء والفنانين : فدوى طوقان ،إبراهيم طوقان ،عبد الرحيم محمود ،زهير أبو سلمى محمود درويش ،سميح القاسم ،احمد دحبور ،معين بسيسو ،كمال ناصر ،هارون هاشم الرشيد ، أحمد مطر ،مريد البرغوثي ،تميم البرغوثي ، غسان زقطان ،ومحمد عزة دروزه ، خليل السكاكيني ،عبد الوهاب الكيالي ،ناجي علوش ،ادوارد سعيد ،إبراهيم أبو لغد ،غسان كنفاني ،رشاد أبو شاور ،عز الدين المناصرة ،ناجي العلي ،محمود شقير ،علي الخليلي ،أحمد رفيق عوض، وإسماعيل شموط ،عبد الرحمن المزين ،وآخرون لا تستحضرهم الذاكرة . رحم الله من آتاه الأجل وأطال في عمر الأحياء منهم .
أما اليوم وبالرغم من استمرار عطاء بعض أدباء ومثقفي الجيل الأول ،جيل الثورة والعطاء الثوري ،وبالرغم من ظهور جيل جديد من المثقفين الأدباء والشعراء ،إلا أنه لا توجد حالة ثقافية متميزة كما لا يمكن الحديث عن انتلجنسيا فلسطينية. فهل يرجع السبب للنظام السياسي وللحزبية الضيقة والتطورات الدراماتيكية للقضية الفلسطينية ؟ ،أم للمثقفين أنفسهم ؟ أم هي ظاهرة عالمية حيث تغير مفهوم الثقافة ووظيفتها ومفهوم المثقف ودوره ؟ .
مع عدم التقليل من تأثير العوامل الخارجية إلا أن ذلك لا يُسقط المسؤولية عن المثقفين الفلسطينيين ،لأن مهمة المثقف ليس التماهي مع الحالة السياسية أو الخضوع لاستحقاقاتها بل السمو عنها والتصدي لها إن كانت مُعيقة للفعل الثقافي الوطني أو للثوابت والمرجعيات الوطنية ، حيث مهمة المثقف لا تقل أهمية عن مسؤولية القيادة والنخب السياسية في الحفاظ على الثوابت والمرجعيات ، والمثقف كما عرفه البعض هو الذي يصمد عندما ينهار ويسقط ويستسلم الآخرون .
عندما يَكثُر عدد (المثقفين) وتَغِّب حالة ثقافية فاعلة ،فإن شكوكا ستثور حول مدى انطباق صفة المثقف على كثير من هؤلاء المثقفين ،وشكوكا أكبر حول ما إن كان النظام السياسي معني بالثقافة والمثقفين ،وإن كان مدركا أهمية الثقافة في النضال الوطني ؟ . وللحديث بقية .