لماذا حكومة فلسطينية في المنفى… لماذا مقرها في الجزائر؟

حجم الخط

عماد شقور يكتب

لا بد من محاولة تنشيط للذاكرة الفلسطينية، لتشكل مقدمة اشرح فيها الحيثيات التي شكلت لدي قناعة، (في ضوء ما تشهده ساحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وساحة الصراع العربي الصهيوني، بشكل عام، في هذه الايام)، بفائدة وضرورة تشكيل «حكومة منفى فلسطينية»، وان يكون مقرها وعنوانها الجزائر. وبسبب الاضطرار الى الاختصار، تمشيا مع ما تتيحه صفحة الرأي في جريدة «القدس العربي» من مساحة محدودة لمقال، ألجأ الى الاختصار، بل وربما الاختزال ايضا، متّكئاً على مقولة الفقيه والفيلسوف محيي الدين بن عربي: «كلما اتسعت العبارة ضاق المعنى، وكلما ضاقت العبارة اتسع المعنى»، ولعل في تعبير «الله أكبر» ما يؤكد صواب هذه الحكمة.

أركز في هذه المحاولة لتنشيط الذاكرة الفلسطينية، على موضوع انسحاب قوات جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي من مدينة الخليل، في مطلع العام 1997:

ـ نصّت اتفاقية اوسلو على الانسحاب الإسرائيلي من «غزة اريحا» اولاً، حتى أصبح هذا التعبير وكأنه «الاسم الحركي» لتلك الاتفاقية، وبعد ذلك الـ«أوّلاً»، تتالت الانسحابات في الضفة والقطاع: من رام الله ونابلس وخان يونس وجنين وبيت لحم وغيرها من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية.. ولم تتوقف هذه الانسحابات الا عند حدود مدينة الخليل، (والقدس العربية طبعا)، نظرا لما تقوله الحركة الصهيونية عن أهمية دينية خاصة لتلك المدينة، في روايات واساطير توراتهم.

ـ شكلت مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، فجر يوم 25.2.1994، الذي صادف الخامس عشر من رمضان، ما اعتبره كثيرون، وفي إسرائيل بالذات، مبررا مقنعا، يمكّن رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه، اسحق رابين، من اتخاذ القرار «الصعب»(!) بالانسحاب من المدينة. لكن رابين، زعيم حزبالعمل «المعتدل» (بالمقاييس الإسرائيلية)، لم يجرؤ على اتخاذ القرار بذلك، وسار على خطاه وريثه (المعتدل!) في المنصب، شمعون بيرس.

ـ نجح اليميني المتشدد، رئيس حزب الليكود، بنيامين نتنياهو، في الاطاحة بحكومة بيرس، وشكل حكومة يمينية عنصرية بامتياز، وأصبحت مسألة انسحاب جيش الاستعمار الإسرائيلي وجلائه عن الخليل، مستبعدة تماما.

ـ ضاق الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، ذرعا من سياسة وتصرفات نتنياهو وحكومته. وعندما تيقن ان نتنياهو «يرفض» الانسحاب من مدينة الخليل، ولا «يماطل» في ذلك فقط، اتخذ القرار الجريء ببدء الترتيبات لنقل مقر القرار والقيادة الفلسطينية، من رام الله وغزة الى القاهرة، مع كل ما يعنيه ذلك من وضع إسرائيل، وجيش الاستعمار الإسرائيلي في مواجهة مباشرة مع جماهير الشعب الفلسطيني. وكان من حسن حظي ان اتاحت لي الظروف، حينها، الاطلاع والمساهمة في بعض تلك التطورات والخطوات السياسية، الأمر الذي يمكنني من تأكيد هذه الواقعة بالتحديد.

ـ عندما تأكدت حكومة نتنياهو، وراعيتها، ادارة الرئيس الامريكي بيل كلينتون، بجدية قرار ابو عمار، طلبت تلك الادارة من الملك الاردني الراحل الحسين بن طلال، (الذي كان قيد العلاج في مايو كلينك في الولايات المتحدة)، التوسط والتدخل. وعاد الملك حسين من مستشفاه الى عمّان، وانتقل منها مباشرة بطائرة مروحية في رحلات مكوكية بين تل ابيب وغزة، واسفرت جهود الملك عن تراجع نتنياهو عن تشدده في قضية الانسحاب من الخليل، وتم اقرار اتفاقية جلاء قوات الاستعمار الإسرائيلي عن 80٪ من المدينة، وعن تحويل 13٪ من اراضي المنطقة ج3 الى 12٪ ج2، و1٪ ج1، وتخصيص السلطة الفلسطينية لـ 3٪ من اصل ال 12٪، لتكون «مناطق خضراء» أي محميات طبيعية، لأنها مناطق جبلية وأحراش. وأذكر أنني كتبت أول عامود صحافي لي في جريدة « الاتحاد» الحيفاوية، ايام كان الصديق نظير مجلي رئيسا لتحريرها، في حينه، تحت عنوان «والتين والزيتون.. والسنديان ايضا»، في اشارة واضحة الى جلاء قوات جيش الاستعمار الإسرائيلي عن مساحات كبيرة مأهولة في مدينة الخليل، اشارت لها «التين والزيتون»، ومساحات أكبر غير مأهولة من ارض دولة فلسطين، وتغطيها اشجار حرشية ابرزها السنديان.

أثمر قرار ابو عمار الجدي بالاستعداد وبدء التحضير لنقل مقر القرار والقيادة الفلسطينية من رام الله وغزة الى القاهرة، ورضخت حكومة نتنياهو اليمينية العنصرية المتغطرسة، وانسحبت من 80٪ من مسطح مدينة الخليل.

معروف ان الظروف تغيرت كثيرا ما بين تلك المرحلة وايامنا هذه. لكن هناك عبرا من دروس تجربتنا هذه ومن تجارب نضالية سابقة لتجربتنا هذه، يجدر بنا استيعابها والبناء عليها:

ـ لم يكن قرار ابو عمار المذكور هروبا من ساحة الصراع وارض المعركة والمواجهة مع الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي. بل العكس من ذلك تماما: كان القرار رفعا للتحدي والمواجهة الى مستويات اعلى وأكثر عنفا.

ـ لم يكن إقدام الجنرال شارل ديغول، وأشدد هنا على كلمة «الجنرال»، على تشكيل «حكومة فرنسا الحرة في المنفى» واختيار بريطانيا مقرا لها، هروبا من مواجهة قوات المانيا النازية التي احتلت فرنسا. بل كان ذلك تاكيدا على تصميمه مواصلة وتصعيد كافة أوجه الصراع، العسكرية والسياسية، مع الاحتلال النازي لوطنه.

“من قال إن تشكيل «حكومة فلسطينية في المنفى» يتراوح عدد أعضائها بين خمسة الى عشرة أعضاء فقط، يعني تفريغ ارض الصراع في فلسطين من الجماهير الفلسطينية صاحبة الحق والقدرة والمصلحة في مواجهة الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي “؟.

ـ لم يكن قرار الزعيم الجزائري العربي الراحل، احمد بن بيللا، ومن معه تشكيل «الحكومة الجزائرية في المنفى» واتخاذ القاهرة مقرا لها، هروبا من المواجهة والصراع مع قوات وجيش الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر. بل كان ذلك تأكيدا على تصميمه مواصلة وتصعيد كافة اوجه الصراع، العسكرية والسياسية، مع الاحتلال والاستعمار الفرنسي للجزائر.

ثم: من قال ان تشكيل «حكومة فلسطينية في المنفى» يتراوح عدد اعضائها بين خمسة الى عشرة اعضاء فقط، يعني تفريغ ارض الصراع في فلسطين من الجماهير الفلسطينية صاحبة الحق والقدرة والمصلحة في مواجهة الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي؟

الاعداد والتحضير لتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، لـ«حكومة فلسطينية في المنفى»، واعلانها رسميا فور اقدام إسرائيل على فرض واقع جديد على أي شبر من ارض الدولة الفلسطينية، وتحويله من ارض تقع تحت الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، الى ارض تخضع للسيادة الإسرائيلية، هو رفع وتصعيد للنضال الوطني الفلسطيني ضد إسرائيل.

لقد أعطت اتفاقية اوسلو مكاسب كبيرة للشعب الفلسطيني، لا يجدر بنا انكارها، ولعل اهمها ثلاثة مكاسب:

1ـ عكست اتجاه تطور الوقائع على ارض فلسطين: كان الاتجاه هو الطرد الى دول اللجوء والمنافي، وأصبح الاتجاه بفعل اوسلو هو العودة من اللجوء والمنافي الى ارض الوطن، (حتى وإن كان الى جزء صغير من ارض الوطن)، وبلغ عدد العائدين ما يزيد على نصف مليون فلسطيني.

2ـ مكّن الفلسطينيين من بدء تشكيل أُطر ومؤسسات فلسطينية جدية وواقعية، على طريق اقامة دولة فلسطينة مستقلة.

3ـ فتح ابوابا جديدة واسعة للعمل والتحرك على الصعيد الدولي والشرعية الدولية.

لكن الحقيقة المرة المؤلمة، تمثلت في ارتكاب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، لحماقات لا تغتفر، حيث أسكرتها امواج الترحيب الوطنية الفلسطينية، وامواج الترحيب القومية العربية، وامواج الترحيب الدولي بما انجزته، فاصيبت بما اسميه مرض وعيوب «عجوز متصابية»، فتصرفت برعونة وارتكبت أخطاء لا تغتفر، وألحقت قيادة المنظمة بذلك توليدها لطفلة اسمتها «السلطة الوطنية الفلسطينية»، التي وُلِدت مصابة بمرض «اعراض الشيخوخة»، حيث ان هذه الطفلة المشوهة، التي انيطت بها مهمة وضع الاساسات لدولة فلسطينية ديمقراطية عصرية، ارتكبت من الموبقات والأخطاء والحماقات، ما يكفي ويزيد لتدمير واضمحلال امبراطورية وليس دولة عادية فقط.

لكن هذا أصبح فعلا ماضيا، وهو تاريخ غير مشرّف بالطبع. الا ان اننا نقف الآن على عتبة مرحلة جديدة، تستعد فيها حكومة إسرائيل اليمينية العنصرية، مدعومة بادارة امريكية يقودها رجل يفتقر الى ابسط قواعد المنطق والتصرف العاقل والمتوازن، الامر الذي يستدعي بالضرورة، إعدادا واستعدادا فلسطينيا، للمبادرة وقلب الطاولة، ووضع قوانين جديدة للصراع الذي نخوضه ضد الاستعمار الإسرائيلي، والعنصرية الصهيونية، واقتراحي ومساهمتي هي الدعوة الى اعداد مؤسسة قيادية فلسطينية جديدة، أسمّيها «حكومة فلسطين في المنفى»، خالية من العيوب والامراض، مرجعيتها منظمة التحرير الفلسطينية الفلسطينية، تفتح ابوابا للمستقبل، وتعطي دورا حقيقيا لجماهير الفلسطينيين، في الوطن اصلا، ولا تنسى الدور الجوهري والحاسم للفلسطينيين في دول اللجوء والشتات، وتعطيهم املا ووعدا، وتقود نضالهم للتحرر واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

اما لماذا ارى أن يكون مقر «حكومة فلسطين في المنفى» في الجزائر تحديدا، فهذا حديث طويل ومتشعب، جدير بأن يقال عندما يحين وقته.

*كاتب فلسطيني