ام جبر وشاح … ( هندومة )

حجم الخط

بقلم جهاد بازي


اتصل بي بسام القنطار. يبدو من النص الذي سيلي أننا كنا في العام 2004. قال لي إن امرأة فلسطينية تزور بيروت وهي أم بالتبني لسمير القنطار المعتقل ولأسرى عرب آخرين ليس لديهم من يزورهم في سجون الاحتلال. وهذه كانت عادة الفلسطينيات. يتبنين شباناً من دول عربية عديدة معتقلين لأنهم يناضلون صادقين في سبيل القضية. ومنهم، أو ربما أكثرهم، لبنانيون، شيوعيين كانوا أو من حزب الله. ولم أكن أعلم ما الذي ينتظرني.
ذهبنا سوياً، بسام وأنا، للقاء أم جبر وشاح المجهولة حتى الآن بالنسبة لي. جلست في بهو الفندق صحافيا يحضر لمقابلة. بينما جاءت تمشي صوبنا بعباءتها السوداء المطرزة بألوان علم فلسطين، وقعت في سحر الأمومة الذي لا يقاوم. حين جلست وبدأت تحكي، رأيتني أمام وجه واسع كأرض سخية، وأمام صوت نضر يحكي كنهر يتدفق. ولخجلي الكثير، رأيت عيني لا تنقطعان عن الدمع، طوال كلامها معي. 
هي بكت. أنا لم أبك كما يكون البكاء عادة، لكنني عجزت عن السيطرة على مجرى دموعي الصامت. حتى أنني استحيت من بسام وهو ينظر الى هذا الصحافي الهش الذي صار كالعجين بين يدي فلسطينية سبعينية لا تجيد إلا الحب والأمومة. 
فاض عالم من الحكايات. فاضت فلسطين التي أحبها، بصوت امرأة كموج البحر. فاضت أم جبر كالخرافات، كذاك الاحساس العميق الذي لا يوصف بالكلمات، بل بفيض بطيء من الدموع. 
في حينها علمت لماذا، وكتبت عنها وإليها مرتين بعد النص أدناه. عرفت أنني يوم حكيت معها، كنت بين يدي فلسطين. وجه أم جبر وشاح هو وجه فلسطين ويداها هما يدا فلسطين. وجهها نسقيه بدموعنا ويداها نغسلهما بدموعنا وقلوبنا. هي التي كتب عنها محمود درويش أنها على هذه الأرض سيدة الأرض. أم جبر هي التي كانت تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين. أم جبر التي لا تلمس إلا بورق الورد وبمجاز القصائد واستعاراتها. الأيدي التي امتدت عليها لا تعرف ماذا فعلت. الأيدي التي لمستها لا تعرف أنها انما غرست أصابعها في تراب فلسطين، في حكايتها المقدسة، في دمها وفي ألوان عيون بناتها وأولادها.
اليد التي لمست أم جبر بسوء، أظنها حتى لو آذتها قد اغتسلت بماء قلبها ونظفت. لقد لمست أم فلسطين. لا يد لمست هذا المعبد الا واغتسلت وتطهرت بالماء الذي قيل فيه جعلنا منه كل شيء حي. يد أم جبر لا تلمس إلا بالشفاه. إلا بالشفاه.
النص كما ورد في “السفير” في 18-19-20 أيلول 2004:      
أم جبر التي حملت إبراهيمين وصارت أما لأربعين أسيراً عربياً

“يا خنزير” قالت أم جبر للقاضي العسكري الإسرائيلي وأشارت بيدها إليه. “يا خنزير لا أقبل بحكمك.. لا أقبل بغير حكم الله.. لأنك ظلمته ظلمته ظلمته”.
ظلمه. ظلم جبر وشاح وأعطاه حكماً بالسجن مدى الحياة. هذه محكمة إسرائيلية تحكم فلسطينياً أمام عيني أمه.. السنة هي 1985. “ظلمته يا خنزير” تقول أم جبر.. ثم تردد أبيات عتابا.. ثم ترفع شالها وتدور في المحكمة حول حاضرين من أخوة جبر وزوجته وأصدقائه.. راحت تغني: 
“عالرابعية عالرابعية
 وإحنا ما منام على الغلوبية.. 
يا كعب البارودة مسكتها بإيدي”.. ثم زغردت.
كان إبراهيم على يدها عندما خرجت من بيت عفا. السنة هي “الثماني والأربعون”. هذا اسم الحكاية وليس اسم السنة. عمرها كان عشرين عاما واسمها هندومة. على يدها إبراهيم وفي بطنها إبراهيم. مات الذي على يدها قبل أن يولد الذي في بطنها. سمي على اسم أخيه الذي لم يحتمل مصاعب التهجير الجماعي إلى مخيمات. مات إبراهيم الثاني بعد أربعين يوما على مجيئه. “جبر” جاء بعدهما. سمي كذلك لأن الله جبر خاطرها بصبي بعد إبراهيمين.. بعد خمسة وثلاثين عاما سيسوق اليهود جبر من منزل والديه “من أجل كلمتين” ويحكمونه مدى الحياة فتغني أم جبر وتزغرد له كي لا يضعف.. ثم تذهب لزيارته في السجن. 
تسلم أم جبر على سجين يجلس بالقرب من جبر ويحدث سيدة تزوره. تسمع السجين يقول للسيدة “إن لا داعى لزيارتي بعد اليوم. ابنك قد خرج ومشوارك من غزة إلى سجن نفحة طويل. لي اخوة هنا”. تجيبه السيدة أنها ستظل تزوره. تسمع أم جبر الحديث. تستغرب أن هذا الشاب الواسع العينين لا أحد من أهله يزوره فتسأله.. يقول لها إنه لبناني وقد أسر في معركة مع الإسرائيليين هنا في فلسطين. “أنت مش فلسطيني؟” تسأله، يجيبها: لا.  يقودها قلبها إلى الكلام: “يَمّا (يا أمي)، أنا سلمت عليك وما كنت بعرفك، والحين بدي اسلم عليك. يا حبيبي.. أنا من هادي اللحظة أمك يا سمير. جبر ابني وإنت ابني. إنت إبني الأول وجبر إبني الثاني”.. 

وسيظل سمير القنطار طول 17 سنة الإبن الأول لأم جبر التي خرجت من قريتها بإبراهيمين، واحد على يدها وقد مات، وواحد في بطنها وقد مات أيضا. وستصير أم جبر أماً لسمير وأماً لأربعين أسيرا عربيا في السجون الإسرائيلية.. تمضي ستة أيام من أسبوعها تزورهم وتجمع أمهات وشبانا وشابات لزيارتهم. ما لم يتسع الباص للزوار، تجلب سيارات أجرة.. تقول للناس: “هؤلاء خيرة الشباب. حاربوا من أجلنا. أنبخل عليهم بالزيارة؟ والله أعاهدك بالله، لو احتاجوا دمي أسحبه وأحطه في زجاجات وأعطيه إليهم. والله قليل عليهم.. يللي زي سمير، 26 سنة في السجن.. هادا كيف نكافيه. سمير.. سمير”، ثم تشهق وتنفجر باكية، تضع منديلها الأزرق على عينيها. هي الآن في الباحة الداخلية لفندق البريستول في بيروت تبكي. التاريخ 17 أيلول 2004. تحكي ل”السفير” قبل أن تنقطع إلى البكاء. اسمها “أم جبر”  وعمرها 77 عاما. أتت وجبر من غزة للمشاركة في مؤتمر مناهض للعولمة وللاحتلال. الآن تبكي. لن نسألها قبل أن تقرر هي أن ترفع منديلها عن عينيها. اليوم جمعة، 17 ايلول، قبل يوم من ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا. عادت إلى الفندق بعدما زارت المخيم مع المشاركين فيه وهم من كل الجنسيات. دخلوا إلى المقبرة الجماعية ووقفوا في نصفها حائرين، فلا نصب للشهداء، بل صور معلقة على أطراف المقبرة للذين رحلوا قبل 22 عاما. أم جبر عرفت أين تذهب في واحد من أمكنة الحكاية الفلسطينية التي لا تصدق والتي بدأت قبل “الثماني والأربعين”. قادها قلبها إلى صورة معلقة للمقبرة لحظة كانت تقام على عجل، لحظة كانت حفرة لم تردم بعد، وتملأها الجثث. أمام الصورة فتحت يديها وراحت تتلو الفاتحة وراحت تبكي. أي يد هذه التي تقرأ الفاتحة وتمسح الدموع وتشير إلى الحاكم الإسرائيلي وتقول له: “يا خنزير لا أقبل بحكمك؟” أي يد هذه؟ 
.. أي يد هذه؟ أم جبر صارت أما لأربعين عربيا أسيرا. أسماؤهم عندها. تعرف حاجاتهم القليلة. التبغ والبن والسكر. راديو صغير مثلا.. زيارة حب. كل هذا تعرفه أم جبر وتلاحقه. سبت العطلة عند اليهود يوم عمل عند السيدة التي لا ترتدي إلا الثوب الفلسطيني التقليدي. الثوب الأسود المطرز بالأحمر. الجميل. تبتاع حاجيات بيتها وحاجيات أولادها في السجون. من اين المال لحاجيات الأسرى؟ هذا سري الذي لن أبوح به، تقول. لكن الناس كانوا يدرون بالسر. يتبرعون. تحتفظ بصور عن الشيكات التي كان يتبرع بها الناس. كانت تعطي صاحب الشيك صورة عنه وتحتفظ بصورة لنفسها. لم ترم بعد تلك الصور. فيها رائحة أولادها العرب الذين عادوا إلى بلادهم. روحها في الصور.. في السابعة والسبعين وما زالت تتذكر اسم السوداني والسوري والليبي والعراقي واللبناني. حين كان المعتقل العربي يحكم كان ينقل من سجنه. الفلسطينيون ممنوعون من الذهاب إلى المحكمة وأم جبر تجهل أين يذهبون بالمحكوم بعد إصدار الحكم بحقه. لكنهم لا يعيدونه إلى سجنه. تذهب إلى الصليب، أي الصليب الأحمر، وتجعل مسؤوليه يتصلون “باليهود” ليعرفوا في أي سجن صار السجين كي تقوم أم جبر بواجبها. بعد خروج جبر من السجن، زارت سمير مرة ثم منعت. محاميتان إسرائيليتان تولتا قضية المنع هذه إلى أن سمح الإسرائيليون لأم جبر بزيارة سمير ثانية. كان سمير قد علم بالمنع لكنه لم يعلم بأنهم عادوا فسمحوا لها بزيارته. ولم يكن يعلم أنها آتية لزيارته. خرج المساجين لملاقاة زائريهم وسمير في الداخل. نادى عليه المذياع وصرخ رفاقه به أن لديك زائراً. جلس على مقعد في آخر الممر الطويل الذي يجلس فيه الأسرى إلى طرف الشبك الحديد ويجلس الزائرون إلى الطرف الآخر. 
سمير الذي يجهل من زائره رآها آتية من بعيد.. لشدة فرحه قام واقفا ثم قعد.. ثم قام ثم قعد. سلمت عليه. كانت تقبل الشباك الحديدية ويقبل الشباك. صافحته. كيف تفترضون المصافحة من خلال مربعات الحديد؟ أصابع تمر بصعوبة فتلامس أصابع. هذه يدها تصافح يد ابنها اللبناني. هذه يدها. هذه طريق وقد تعودنا عليها، تقول. الآن بدأت المعركة. في السابعة والسبعين وما زالت تقول إن المعركة بدأت الآن. نبحث في عينيها عن شعارات تافهة فلا نجد. فلسطين التي افترستها شعاراتنا التافهة عندها أم في السابعة والسبعين ما زالت مؤمنة بما تقول، وقد قامت بواجب إنساني طول عمرها من غير أن يرف لها جفن من تعب. إنس الثماني والأربعين وإنس الألفين. معركتنا بدأت الآن.. الشاطر من يكون نفسه أطول، تقول. 
هي أم أليس كذلك؟ عدوها المفترض أم بدوره. “خليها الأم الإسرائيلية تقول لابنها روح إتطوع.. وخليها تصبر.. ومنشوف. نحن صابرين وتعودنا.. وآخرة فلسطين لأصحابها”، تقول. 
هذه أم جبر التي حملت إبراهيمين. هذه يدها مررت أصابعها من بين الحديد لتصافح ابنها اللبناني. هذه يدها تمسح الدمع وترفع الشال في قاعة المحكمة. هذه يدها تتلو الفاتحة في المقبرة الجماعية.
هذه يد أم جبر الفلسطينية.. هات يدك نقبلها يا أمي.