الجهاد الإسلامي توازن تحت حصار السيولة ...عبد الرحمن شهاب

thumb (1)
حجم الخط

ينقل عن سقراط في العلاقة بين اللفظ والمعنى: ان اللفظ، أي لفظ، لا يمكن ان يأتي دائما حاملا ذات المعنى في كل حين، فالمفهوم الذي يرمز له اللفظ يتشكل ويتغير مع تغير السياق الذي يأتي فيه. ومن سقراط الى فلسطين وجدلية الثبات والتراجع في التطبيق العملي ، فالثبات لا يتناقض ابدا مع التحليل المستمر للأحداث والمواقف والمراجعة الدائمة للأليات والوسائل ومدى نجاعتها وصلاحيتها في ملائمة الهدف. فالثابت هو الهدف والهدف هو فلسطين وعدم مراجعة الوسائل والتجربة شكل من الاعاقة العقلية . من المعيب اتخاذ الثبات ذريعة للجمود والتحجر او التكلس فالثبات بهذا المعنى يحمل مضامين سلبية وليست ايجابية. فالثبات الايجابي، هو الثبات المتوازن هو الثبات على الهدف، والهدف كما قلنا : فلسطين. وفيه تظل فلسطين ابرة الميزان والبوصلة التي تحدد المواقف وتضبط التحركات.
عندما تكون فلسطين هي البوصلة عندها كل ما حولها يجب ان يكون متحرك بما يخدم اتجاه البوصلة . ليس هناك محاور وليس هناك اوطان وليس هناك شعوب اولى من قضيتنا. وعندما يغرق الجميع من حولك في مشاكلهم، عليك ان تبحث وحدك عن كل حليف او شبه حليف. ففلسطين لا تحتمل فقدان المزيد من الحلفاء، وهذا يفرض على كل من يمثل فلسطين رسمياً او غير رسمي , حكومياً او غير حكومي , مقاوماً ام غير مقاوم معتدلاً او متشدداً، يفرض عليه التجرد، فلا يسمح له ان يتحزب او يشخصن القضية او يركز على الوسيلة والالية وينسى الهدف.
الاحزاب تموت، ويولد غيرها، ويموت الزعماء ويأتي غيرهم في سياق قضية واحدة لا تتأثر بغيابهم، وهكذا تمتلئ المقابر بالأحزاب والافكار والأيدولوجيات والكاريزمات ممن كانوا اقل من القضية، وممن اعتقدوا انهم اكبر منها، وان لا بديل عنهم . وتستمر القضية وكأنهم كانوا حطبها. والتاريخ كما يقال يكتبه الاقوياء، وبعد زوالهم يكتشف التأريخ كم كان ظالما ومزيفا والتاريخ قليلا ما ينصف.
المنطقة تمر بحالة سيولة متحركة لا يعلم الا الله كيف ستتشكل بعد ان سجرت بحارنا العربية والاسلامية وبعد ان مارت سماؤنا مورا.
في هذا الجو المضطرب يأوي بعض الفلسطينيين الى جبال لتعصمهم من الماء , ويتناسى ان فلسطين هي العاصم وسط الامواج.
قيل ما قيل عن استقلال القرار الفلسطيني، ودفع الفلسطينيون اثماناً باهظة لقاء ذلك ولكن وبحساب النتائج يمكن القول انه الى حد بعيد لم يكن للفلسطينيين قراراً مستقلاً طوال تاريخهم، وكثيرا ما استغلت القضية الفلسطينية للمتاجرة وقهر الشعوب باسم الثورة والتحرير.
في زمن السيولة المتحركة يفترض من الفلسطيني ان يتمسك بفلسطينيته لا بمحاور قد تتغير اهدافها او على الاقل تتعدد اهدافها وهو ما اشار اليه الامين العام لحركة الجهاد الاسلامي الدكتور رمضان شلح في لقاءه الاخير مع قناة الميادين ، " ان سيولة الحالة الإقليمية تنقلنا من الحديث عن محور مقاومة وممانعة الى مشروع مقاومة وممانعة" , بالتأكيد في ظل الحديث الإسرائيلي عن استراتيجية ما بعد سايكس بيكو واستراتيجية ما بعد الاتفاق النووي لا يمكن للفلسطينيين ان يكونوا جامدي التحالف ولكن الأمر الوحيد الممكن هو الالتصاق بالمشروع المقاوم للاحتلال. ليس هذا تخليا عن بعض الحلفاء او شكوكاً في استراتيجيتهم كما تبادر الى فهم البعض. الإسرائيليون انفسهم يشيرون الى ان المحور الإيراني قد يتشعب ويتسع بعد رفع الحصار عن ايران، ووصولها الى دولة العتبة النووية . هذا الاتساع والتمدد ليس بالضرورة ان يكون ضمن المشروع المقاوم، فدول مثل شرق ووسط آسيا يمكنها ان تكون ضمن المحور الإيراني والحلف الجديد، لكنها لن تقبل ان تعرف نفسها ضمن محور مقاوم لدولة "اسرائيل". في المقابل لا يمكننا كفلسطينيين ان نتوقع من ايران ان تبني تحالفاتها فقط على اساس مشروع المقاومة في اطار سعيها لتصبح دولة عظمى، بل يمكننا ان نتوقع منها دعم شعبنا في مشروع مقاومته للاحتلال وان تكون هي الحاضنة الدولية والأممية لهذا المشروع. كما لا يمكننا ان نعتبر الاخرين- غير المنضوين في الحلف الناشئ- بانهم غير مقاومين. حصر المقاومة في محور يشكل اساءة لمن هم خارج هذا المحور ومنهم الحريص على سلامة القضية الفلسطينية والداعم لها. من الطبيعي لبعض الدول والقوى ان تقدم الدعم والاسناد للقضية الفلسطينية بطريقتها، و ان لا تقبل الانضواء ضمن محور قد تتعدد اهدافه.
في الشأن المصري
ان اساس الخلاف الناشئ بين النظام المصري وحركة حماس لم يقم على اساس مقاومة وعدم مقاومة ، وانما نتج عما جرى في 30 يونيو ، لم يكن للقضية الفلسطينية شأن في ذلك وهو شأن مصري داخلي. ومن ضرورات التوازن الا يقع الكل الفلسطيني حبيسا لهذا الخصام، وكان يفترض من حركة حماس ان تنأى بنفسها وبالحالة الفلسطينية عن هذا المأزق كما فعلت ذلك سابقاً مع سوريا حافظ الأسد حين اعتبرت ما حدث شان داخلي سوري وان فلسطين لها خصوصيتها، بل اصبحت حماس ركنا رئيسيا في محور اهم رموزه الرئيس الراحل حافظ الاسد . و يحسب للأمين العام لحركة الجهاد الاسلامي انه رغم صعوبة الظرف يحاول بذل كل جهد لعبور هذه الازمة فليس لقطاع غزة والقضية الفلسطينية ان تعيش في جو مشكلة مع مصر لا بالجغرافيا ولا بالتاريخ ولا بالسياسة ولا بأي شيء كما قال الدكتور شلح، ومطالبته الدائمة لمصر ان تواصل بسط رعايتها للمشروع الوطني الفلسطيني .
في الشأن السوري:
في الموضوع السوري، حافظ الجهاد الاسلامي على توازنه ، ولم يقع فريسة التحالفات وظل يؤكد على ان المخطط لسوريا: "ان لا يكون هناك حل وان مخرجات الحرب في سوريا ليست الا غنائم تصب في مصلحة اسرائيل"
وفي الشأن الفلسطيني كان الجهاد الإسلامي وحده محورا في اطفائه كل حريق فلسطيني تمت السيطرة عليه، ووقوداً في كل حريق لم تتم السيطرة عليه.
لقد تعرض الجهاد الإسلامي كما حركة حماس لملاحقة الأجهزة الأمنية الفلسطينية منذ نشوء السلطة، ورغم ذلك ظل يؤكد ان فلسطين اكبر من الجميع وان مواجهة العدو هي التي توحدنا في نهاية المطاف.
ومروراً بالإنقسام الى اليوم يغيب الجهاد الإسلامي عن دهاليز المصالحة عندما يبداً الحديث حول المحاصصة، من تقسيم ما يسمى الوزارات السيادية حتى ترقيات الموظفين التابعين لكل طرف من طرفي الإنقسام، والتكالب على الرواتب. وكذلك يغيب الجهاد الإسلامي عن الساحات عندما تمتلئ بالرايات الحزبية والمناكفات السياسية الجماهرية .
و رغم ان الوساطة والاطفاء وحل النزاعات ليست من مهمة الجهاد الاسلامي ولا هي جزء من برنامجه السياسي الا ان قيادات الحركة وافرادها تعودوا على هذا الدور وهو بلا شك على حساب اهتمامات اخرى , بل قد يضطرهم الامر في بعض الاحيان الى اصدار تصريحات قد تبدو تراجعا عن ثوابت الحركة وافكارها ولكنها تأتي في سياق دعم المصالحة الفلسطينية . وقد يمنعهم هذا الدور من البوح بمواقفهم خشية من تغذية الانقسام .
ان توازن قيادة الحركة لا يمنعها من الاعتراف بالحقيقة: ان المعادلة الاقليمية والدولية لم تبقّ شرعية ناطقة باسم الفلسطينيين سوى "قيادة منظمة التحرير الفلسطينية" , قد يفهم البعض ان الدكتور رمضان شلح يتراجع عن ثوابت الحركة عندما يؤكد على مشروعية م.ت.ف رغم هرمها وتراخيها ورغم ان الحركة غير ممثلة بها، ورغم مشروع اوسلو والمعاهدات التي وقعتها قيادة المنظمة مع الإحتلال وغيره، ومع ذلك تدرك قيادة حركة الجهاد أن المنظمة، هي التي ما زالت قادرة على تمثيل الكل الفلسطيني في الشتات "عندما نجد ان اللاجئ السوري والعراقي له من يمثله، ولكن قضية اللجوء الفلسطيني التي كانت حية منذ 70 عاماً لم يعد من يمثلها" ، ومن هنا رأى د. شلح ان اعادة البناء تتم كما بدأ البناء، فحركة فتح التي كانت البداية، " من المجحف ان تنتهي الى هذا المطاف، ولا بد من العودة اليها لإعادة البناء وعليها هي ان تعيد النظر في مشروعها الذي وصل الى طريقه المسدود بنهاية مشروع حل الدولتين" . ولقد علل هذه الرؤية بانه في ظل الظروف الدولية والاقليمية الراهنة، فان تجاوز شرعية ابو مازن يعني تجاوز الشرعية الفلسطينية وفرط عقد هذه الشرعية في كل المؤسسات الاممية، وهذه الشرعية هي التي تمنح ابو مازن القدرة على اعادة بناء حركة فتح واخراج السلطة من شراكتها للاحتلال ضد المقاومة الى اعادة التوازن للمشروع الوطني الفلسطيني