مواجهة السلام … قصة الحمار

حجم الخط

غيرشون باسكن يكتب

كيف يمكننا أن نتصور عملية سلام حقيقية لا يتم اجبار الناس فيها على اخلاء بيوتهم؟

كيف يمكن أن يكون هناك سلام حقيقي إذا لم نكن قادرين على العيش في الأماكن التي تحدد هويتنا ونعتبرها جزءا لا يتجزأ من تاريخنا وإرثنا الحضاري؟

كيف يمكننا أن نتخيل عملية مصالحة صادقة تسمح لكل من اليهود والفلسطينيين الراغبين في العيش في وطنهم بفعل ذلك؟

هل يمكن أن يوجد سلام وأحد الاطراف يملك السيطرة على الطرف الاخر؟

اثناء بحثي عن الطريق لرؤية إسرائيلية – فلسطينية جديدة؛ عبّر معظم الإسرائيليين والفلسطينيين الـ 109 الذين قمت باجراء مقابلات معهم خلال الثلاثة اسابيع الماضية ضمن جلسات تشاورية مدة كل منها نصف ساعة، عن رغبتهم الحقيقية في العيش بسلام. لم يكونوا فقط يسمعوني ما اردت سماعه؛ كانت كلماتهم تنم عن صدق شديد.

لقد شاركت بشكل حثيث في السعي لتحقيق السلام على مدى الاربعين سنة الماضية ولم يعد هناك الكثير من الامور التي لم اسمعها من قبل ولا يمكن تغطية عيني بسهولة حيث انني ادركت أن مفهوم العيش بسلام يتباين ويختلف باختلاف الناس وبالتالي تتغير وتختلف مدى اهمية السلام وكيفيته ما بين الاسرائيليين والفلسطينيين.

جل ما يتحدث عنه الاسرائيليون وذا اولوية قصوى هو الامن يتلوه مدى الشرعية. في حين ان ما يهم الفلسطينيين بالدرجة الاولى وقبل اي شيء هي الحرية والمساواة والمعاملة بالمثل و العيش بكرامة يليها الشرعية، إن الرؤيا الذاتية التي يمتلكها كل طرف عن نفسه تختلف اختلافا كليا عما يملكه الاخر عنه، و تشكل تجربتنا العملية إلى حد كبير في هذا الصراع، كيفية تَقبُلنا لانفسنا وكيفية تَقبُلنا “للآخر”.

يعتقد معظم الفلسطينيين برغبتهم الحقيقية بالسلام على عكس رغبة الاسرائيليين بذلك وتنطبق ذات الفكرة لدى الاسرائيليين برغبتهم بالعيش بسلام ورفض الفلسطينيين لهذه الفكرة، أود أن اشارككم بعضا من القصص الواقعية التي سمعتها ورأيتها بأم عيني.

سأبدأ بقصة فلسطينية.

“ه” هو صديق مقرب فلسطينيٌ، ولد ونشأ في قرية مجاورة لمستوطنة افرات. في الواقع، هو يمتلك ارضا تقع اليوم ضمن الاراضي الحدودية التوسعية لبلدية افرات. يؤمن “ه” بعملية السلام بقوة وطالما ما كون صداقات و زمالات مع الاسرائيليين. حتى انه قد عاش ودرس فصلا دراسيا منذ سنوات عدة في معهد وادي عربة للدراسات البيئية في مستوطنة كيتورا.

وبكل شفافية، قمت وإياه بتسجيل شركة اسرائيلية فلسطينية مشتركة بشكل معلن في اسرائيل تُعنى بالابتكارات الطبية والتزويد الطبي. “ه” فلسطينيٌ متزوجٌ من سيدة من القدس الشرقية حاملة لبطاقة الهوية الزرقاء الاسرائيلية، يمتلكان شقة في شعفاط، ولديهما ثلاث فتيات اكبرهن تعاني من “متلازمة داون”.

منذ اكثر من خمس سنوات وهو يحاول الحصول على إذن للعيش هو وزوجته وبناته في القدس، ففيما يتعلق بابنته الكبرى؛ المنهج التعليمي والمرافق الخاصة بمتلازمة داون في القدس يعدان متقدمين بشكل كبير عما هو موجود في مكان عمله وسكنه في رام الله حيث يمتلك هناك شقة؛ للمبيت فيها خلال السنوات الماضية. كان التصريح المعطى له من السلطات الاسرائيلية منذ فترة قريبة يسمح له بالتواجد في القدس حتى الساعة العاشرة ليلا فقط، ومنذ وقت قريب كان العيش مع زوجته وبناته في القدس يعد جريمة وخلال الأشهر الماضية، في عالم ما بعد فايروس كورونا؛ تم اجباره لمرة اخرى بالعيش في الضفة الغربية لا مع اسرته، بسبب نوع التصريح المعطى له، والذي كان لا يمكن استخدامه خلال الأشهر الماضية.

في الأسبوع الماضي قام باصطحابي لزيارة قرية عائلته “وادي رحال” والمعروفة باللغة العبرية باسم “وادي راشيل”. خلال الطريق إلى هناك اخبرني “ه” قصة قد سمعتها من قبل و يعرفها كل فلسطيني واسمها “قصة الحمار”

وتقول القصة انه في يوم من الأيام سأل احد المزارعين اليهود فيما اذا كان بإمكانه استعارة الحمار من جار له فلسطيني، وقام هذا المزارع الفلسطيني بكل شهامة بالموافقة على هذا الطلب واعطاه الحمار، وفي الأسبوع الذي يليه مرة اخرى سأل المزارع اليهودي جاره الفلسطيني “هل يمكنني أن أستعير حمارنا؟”. ومرة أخرى، وبكل شهامة قام المزارع الفلسطيني بإحضار حماره إلى جاره. في الاسبوع الذي تلاه، اقترب المزارع اليهودي من جاره الفلسطيني وسأله: ” أتود استخدام حماري؟”

أنهى”ه” القصة فيما كنا نقترب من بداية طريق ترابي على مشارف قريته يؤدي إلى قطعة ارض يمتلكها، كان هناك لافتة كبيرة تقول “حافات إيتام” باللغة العبرية. قال لي “ه” انه منذ عدة اعوام، ظهر بعض الاشخاص اللطفاء، إسرائيليون، يتجولون في التلال المحيطة لقرية وادي رحال، وبعد برهة من الزمن، شاهد “ه” على اعلى احدى التلال خيمة لنفس الاشخاص هناك، بعد ذلك اتوا مصطحبين معهم بعض الاغنام والخراف وأقاموا اسيجة، وخلال فترة وجيزة من الزمن، اصبح الطريق المؤدي الى ارض “ه” مسيجا بالأسلاك الشائكة. وعندما حاول الوصول الى ارضه. قام جيرانه الجدد بإلقاء ورمي الحجارة عليه، واصبحت هذه المستوطنة تشكل نقطة سيطرة بالعنف وبالقوة على كامل المنطقة المحيطة ومن المخطط له لهذه المستوطنة “حافات ايتام” ان تقوم بزيادة اعداد المستوطنين الاسرائيليين بشكل كبير في المنطقة، في حين لا يتم توفير اي تراخيص بناء لاصحاب الارض الفلسطينين.

وتعتبر هذه مجرد قصة واحدة صغيرة ضمن العديد من امثالها، وبالطبع هناك قصص يرويها المستوطنون الاسرائيليون اليهود عن جيرانهم الفلسطينيين واستخدامهم العنف ضدهم. وانا اكتب هذه القصة بسبب احد اهم الامور التي اطرحها في جميع اللقاءات التوعوية التي اقوم بها وهو ان السلام القائم على اجتثاث الناس من جذورهم من اوطانهم لا يمكن ان تقوم له قائمة.

هنالك اكثر من سبعمئة الف مستوطن اسرائيلي يهودي يعيشون داخل “الخط الاخضر” بما في ذلك في القدس الشرقية. يقول “ه” انه لا يوجد لديه اي إشكال مع هذه المستوطنة، بل ان لديه الرغبة في بناء مضمار لركوب الخيل على الارض التي يمتلكها، يمكن فيه لكلا الاطفال الاسرائيليين والفلسطينيين من اللقاء وتعلم الفروسية معا. في حين ان امر المستوطنة ” حافات ايتام” امر اخر. وللاسف تشكل هذه المستوطنة رؤية غالبية الفلسطينيين الى ما سيؤول اليه الوضع مع جيرانهم في المستوطنات والذي يبدو انهم سيبقون فيها للابد.

* الكاتب هو رجل أعمال سياسي واجتماعي كرّس حياته لدولة إسرائيل وللسلام ما بين إسرائيل وجيرانها. صدر كتابه الأخير “السعي من أجل السلام في إسرائيل وفلسطين” من قبل مطبعة جامعة فاندربيلت وهو متاح الآن في إسرائيل وفلسطين. وسوف يظهر قريبا باللغة العربية في عمان وبيروت.