شهد الإعلام الدّوليّ تحولّاً من دمقرطة الرّقميّ إلى رقمنة الدّيمقراطية لتمكِّن أكبر عدد ممكن من النّاس من الوصول إلى المعلومة والخبر والرّأي الأخر، حيث مثّلت التّكنولوجيا المستحدثة وسيلةً عمليّةً لإطلاق حريّة الإنسان في أن يحصل في أيِّ وقتٍ وفي أيِّ مكانٍ على كلِّ ما يحتاجه من معلومات، وأن يرسلَ في أيِّ وقتٍ وإلى أيِّ مكانٍ ما يتراءى له من أفكارٍ وآراءٍ، وعليه فقد غزت الرّقميّة والإعلام الجديد الدّيمقراطيّة ليدخل الإنسان عصر رقْمنة الدّيمقراطيّة، وهو ما قد يُوحي مستقبلاً بالتّفكير الجادِّ في نظامٍ مجتمعيٍّ يأخذ بعين الاعتبار كلِّ هذه التّحوّلات التي جاءت بها صحافة المواطن.
وفي هذا السّياق الاتّصاليّ الجديد الذي ولَّدته تكنولوجيا الاتّصال الجديدة باتت الميديا الاجتماعيّة ذات أهميّةٍ قصوى بالنّسبة للجيل الرّقميّ؛ فهي منبرٌ لمن لا منبرَ له في التّعبير، ونادٍ للتّعارف لمن لا مكانَ له في نوادي العالم الحقيقيّ، وفضاءٌ لإبراز مختلف أشكال الإبداع الذّاتيّ لمن لم يتسنَّ له التّعريف بمهاراته في العالم الحقيقيّ، ومكتبةٌ لمن لا كتب أو موسوعات في بيته، ونلاحظ أنّ هناك انعكاسًا جليًّا لتقنيّات الإنترنت على خصائص الجمهور وطبيعة الممارسة الإعلاميّة من خلال هذه الوسيلة، فبعد أن كانت عناصر العمليّة الإعلاميّة هي: (المرسل والرّسالة والوسيلة والمستقبل ورجع الصدى)، اختلفت الحدود الفاصلة بين المرسل والمستقبل وأصبح كلُّ جمهور الميديا منتجًا للمادة الإعلاميّة المقدّمة، وهو ما أطلق عليه الخبراء والمتخصّصون "ظاهرة المواطن الصّحفيّ".
وانطلاقًا مما تقدم نقول لقد شهد الإعلام الدّوليّ تحوّلاً من دمقرطة الرّقميّ إلى رقمنة الدّيمقراطيّة، وكانت أغلب الدول، وبغضِّ النّظر عن الخلفيّة التي تقودها والتي كانت بالأساس اقتصادية تسعى إلى الاستثمار في رقمنة إعلامها، وتبنِّي شبكة الانترنت، ومدّ خطوطها وهي بذلك تُمكِّنُ أكبر عدد ممكن من النّاس من الوصول إلى المعلومة والخبر والرّأي الآخر، كما أنّها بدمقرطة الإنترنت ستسحب تلك الأنظمة البساط من تحت إعلامها الرّسميّ التّقليديّ لتدقّ فيه خنجر ثقافة الرّقميّ وديمقراطيّته الكامنة فيه. إنّ ديمقراطيّة الرّقميّ ومنذ تسعينيّات القرن الماضي وبداية الألفيّة بدأت شيئًا فشيئًا توسّعُ من التّفكير الدّيمقراطيّ والتّفكير في الدّيمقراطيّة بشكلٍ مغاير، ولعلنا نلاحظ أن الديجتال الرقمي ساهم في دخول الإنسان إلى عصرَ رقمنة الدّيمقراطيّة، وهو ما قد يُوحي مستقبلاً بالتّفكير الجادِّ في نظامٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ يأخذ بعين الاعتبار كلَّ هذه التّحوّلات الجديدة التي جاء بها الإعلام الجديد وشبكات الميديا الاجتماعيّة وبشكلٍ خاصٍّ على الممارسات الإعلاميّة، ما أصبح يؤثّر حتّى على البيئة الجديدة للاتّصال التي خلقتها تلك التّكنولوجيّات الجديدة.
وبناءً على ذلك فقد فتحت هذه التّكنولوجيّات الاتّصاليّة الجديدة الباب أمام إعداد المحتوى الإعلاميّ لأيٍّ كان بشكلٍ جعل الشّبكات الاجتماعيّة والمدوّنات تزاحم وسائل الإعلام التّقليديّة في صياغة المحتويات ووضع الأجندة الإعلاميّة، إلى درجة أنّ المؤسّسات الإعلاميّة التّقليديّة، بل وحتّى مكاتب العلاقات العامّة في المؤسّسات والشّركات باتت تسابق الزمن من أجل التّواجد في منصّات تلك الشّبكات الاجتماعيّة من خلال طرح محتويات "مضامين إعلاميّة تفاعليّة"، فنماذج الدّيمقراطيّة الرّقميّة تشدّد على أهميّة "مشاركة المواطنين الحقيقيين وانخراطهم الأكثر فاعليّة ونشاط في الديمقراطية، ولذلك فهي تنتقد الفصل الراديكاليّ للمواطنين عن السّلطة والنّخب والمؤسّسات الدّيمقراطيّة عن طريق التّمثيل"، وأنّ وجود المؤسّسات النّيابيّة على المستوى القويّ ليس كافيًا للدّيمقراطيّة، فلكي تتحقّق المشاركة القصوى من جانب الشّعب جميعه على ذلك المستوى يجب أن تحدث تنشئة اجتماعيّة أو "تدريب اجتماعيّ" على الدّيمقراطيّة في مجالات أخرى لكي يتسنّى تطوير الاتّجاهات والصّفات السّيكولوجيّة الضّروريّة، وهذا التّطوير يحدث عن طريق عمليّة المشاركة ذاتها.
ختامًا، نجد هنا أنّ نظريّة دوّامة الصّمت الإعلاميّة قد بدأت بالسّكون، ولعلنا نلاحظ أنّ ما كان بالأمس القريب جزءاً صامتًا أصبح اليوم صادحًا بأفكاره وانتقاداته ورؤيته للأمور، وهذا ينبئ بأنّ هناك جيلاً جديدًا يجهل الصّمت وينشأ مُعبّرًا متحدّثًا عن ذاته وأفكاره، هذا الجيل الذي لا تعرف نظريّة دوّامة الصّمت إليه سبيلاً. إن صحافة المواطن في هذه الحالة تُـفجّر "دوّامة الصّمت"، ويطفو على السّطح رصيد المسكوت عنه في السّياسة الإعلاميّة المنحازة المنغلقة.