كما جاء في الكتب

حجم الخط

سمير عطاالله يكتب

“جون بولتون المنحرف، هو شخص حقير عديم الأهمية ومجرم يجب أن يزج به في السجن”. هكذا يصف دونالد ترامب مستشاره السابق للأمن القومي، الذي يدوّن في كتاب “الغرفة حيث جرت” احداث 17 شهراً أمضاها الى جانب الرئيس. بولتون لا يصف، بولتون يروي. وبولتون يخالف قواعد النشر وقوانينه قبل الأوان المسموح به، لكن القضاء سمح لكتابه بالصدور، وكذلك لكتاب وضعته ابنة شقيق ترامب، يكشف صورة مزعجة جداً للعم دونالد ايام الشباب.

وصورتا العم الشاب والعم الرئيس، تشكلان معاً صورة مقلقة للعالم الذي نعيش فيه. عالم غير خاضع لقانون الجاذبية الذي اكتشفه اسحق نيوتن، عائم في الفراغ وفي الخطر، تفككت فيه الضوابط التقليدية وانهارت الحدود الدنيا في سلوك الفرد والجماعة، ولم تعد قوانين البيت الأبيض هي ما يطبق في مؤسسة الرئاسة، بل ثقافة الصفقة ومفاهيمها وخطابها. وقد انضم فيها الى الرئيس، صهره، القادم من المدرسة نفسها في النظرة الى الأمة وإلى العالم وإلى قضايا الإنسان. صفقة، كل شيء صفقة.

ما يكشفه بولتون ليس طباع الرئيس المشهورة، بل طريقته في اتخاذ القرارات السياسية، وكيف سحب الولايات المتحدة من مواقعها الاستراتيجية، وكيف انه رفض عقد قمته مع فلاديمير بوتين في فنلندا، لاعتقاده ان فنلندا في روسيا. جاء في البداية ومعه مجموعة من المحنّكين، ثم طردهم الواحد بعد الآخر. وغيَّر نظام العمل من الثامنة صباحاً الى الحادية عشرة، وبدل الاستماع الى تقرير الاستخبارات كل يوم، اكتفى بمرتين في الاسبوع. وطرد جيمس كومبي من أهم منصب أمني في رئاسة الـ”إف. بي. آي.” بإصرار من صهره جاريد كوشنر، مستشاره الأهم في قضايا العالم، والوحيد الذي لم يطرده. بل سلم الى كوشنر أهم قضية إنسانية مطروحة على الأمم المتحدة، هي القضية الفلسطينية، فوقعت في أيدي إثنين من هواة السياسة المسحورين باليمين الاسرائيلي وبنيامين نتنياهو.

دمّر ترامب العلاقات مع حلفائه يميناً ويساراً. ووجه الإهانات الى المانيا وفرنسا وحلف شمال الأطلسي. ويقول بولتون إنه رجل لا يطيق الاصغاء، ويصر على التحدث طوال الوقت، ولا يريد من حوله سوى المصفقين. وفي ذلك يشبه زعيم الديموقراطية الأكبر في العالم، الزعيم الأوحد في الكرملين، وريث النظام السوفياتي وتقاليده وعادات الرجل الواحد، والحزب الواحد، والرأي الواحد. وهو النموذج الذي اهداه السوفيات الى اصدقائهم في العالم العربي وسائر الاقطار المشابهة. فقدت هذه الدول مستويات التعليم ومؤهلات المنافسة ومستويات المعيشة. وفي نهاية الآمر، جيء بالدكتور مايكل دبغي الى موسكو، ليشرف على عملية القلب التي اجريت، آنذاك، لسيد الكرملين بوريس يلتسين. الرأسمالية والاشتراكية؟ اطلاقاً: الحرية أو أي شيء آخر. لا يستطيع النجاح من لم يؤمن بالحرية.

المشكلة مع ترامب ليست في أميركا وحدها. ففيها نظام ومؤسسات تستطيع تخطي العهود والرجال. لقد تجاوزت مرحلة جورج دبليو من قبل. غير ان المشكلة هي عندما تضع أميركا نموذجاً أمام العالم. إذ يصبح من السهل انتخاب رجل مثل جايير بولسونارو، الذي قال إن البرازيليين شعب لا يمكن ان يصاب بالكورونا، ومن يومها لم تعد المقابر تتسع لضحاياها.

هؤلاء هم أصحاب المونولوغ. وهذا يصبح حاكماً وطبيباً وشاعراً، وعند الضرورة، عالم فضاء مثل أبطال ستانلي كوبريك. سوف تقولون إنني مسكون بظاهرة معمر منيار القذافي. وهذا صحيح. ألم يصنع الأخ القائد سيارة سباق مثل “فيراري”؟ ويتصور إلى جانبها، أمام خيمته، حيث رسم التصاميم واستوحى دقة العلوم ونظريات الفيزياء؟

مشكلة الديكتاتورية، أن الملازم يعيّن نفسه قائداً وروائياً ومصمم سيارات، ومأساة الديموقراطية أنها يمكن ان تنتخب جايير بولسونارو، الخبير في علم الجراثيم! ولطالما صحح ترامب الأخطاء التي ارتكبها الدكتور فاوتشي، كبيرعلماء أميركا، في تكهناته عن كورونا.

الفارق، ان النظام الديموقراطي، في حدّه الأدنى، يشكل نوعاً من أمان الطوارئ. تستطيع ان تطرد وزير الدفاع ومستشار الأمن القومي ورئيس الـ”إف. بي. آي”، لكنك لا تستطيع ارغام القضاء على حظر كتاب. القضاء ليس خاضعاً للرئيس، بل للقانون وللدستور. ولد ابن عم ابي في فلنت ميتشيغان، وهو ضرير. ودرس الحقوق وأصبح قاضياً شهيراً في الولاية، تتفرج الناس كيف يصل الى المحكمة يقوده كلبه الرائع. وعندما قمت بزيارته، سألته إن كان فاقد البصر كلياً، فأجاب: أنا أعمى مثل القانون One hundred percent.

في الديموقراطية، أي في الحرية، العدالة تصحح نفسها. يخنق الشرطي الأبيض شوفان، الفتى الأسود فلويد، فتحترق أميركا احتجاجاً. يطرد الرئيس كل من حوله مثل ذباب الخيول، فيقف إلى جانبهم القضاء، غير آبه بنزوات ومزاج وغطرسات المؤتمن على البيت الأبيض، الذي يُنتخب له مرة جون كينيدي ومرة جورج دبليو. في كل الحالات يظل القانون والدستور هما المرجع. ويظل القضاء هو الضمانة الاخلاقية الأخيرة حتى في بلد صغير مثل لبنان، حيث القضاء في يد صاحب الرأي، لا صاحب الأمر. والقانون في عهدة أهله، لا في ايدي مفذلكيه. والدستور في حمى نفسه، لا في حمى مفسري الأحلام وقارئي البخت.

يقف هؤلاء بشجاعة كليّة في وجه التدهور المسلكي الذي يضرب عراقة العمل الوظيفي. في أقل من أسبوع حُمل محافظ بيروت عل الاكتاف في بلاد البترون (وأيضاً السيدة قرينته). وكان أول انجاز له اصدار مذكرة بتصليح شارات السير. وخود على تهاني. وهاتوا المحافظ نحمله على الاكتاف. يا صاحب السعادة هذه مهمة رئيس دائرة بالوكالة. يا صاحب السعادة، هذه بيروت. هذه ذات زمان مضاءة الشرق ومنارة النهضة.

اخطأت الروم يوم طالبت بحصة في الوظيفة. ما من يوم كانت حقوقها في المناصب البيروقراطية. رجالها كانوا دائماً أعلى من المنصب مهما علا. البير مخيبر، وشارل مالك، وفؤاد بطرس، وغسان تويني، وايلي سالم، وجورج حكيم. حقوق الروم في تيجان عاصي ومنصور وفيروز. وفي جورج الزاخم، وفيليب سالم، وموريس فاضل، وانطون سعاده، وجورج حاوي، وميخائيل نعيمه، واغناطيوس هزيم، ومايكل دبغي، وعبدالله سعاده، وعبدالله قبرصي، وسعيد فريحة.

هذه هي المشكلة في الضياع العام للمقاييس. من أجل ذلك يدخل رئيس أميركا كل بيت في العالم كقضية، سواء كمثل أو كمثال. إذا كان كينيدي، يكون في صفه ديغول. إذا كان ايزنهاور، يكون في صفه تشرشل واديناور. إذا كان نهرو في الهند، يكون شو إن لاي في الصين.

هناك أمزجة يمر بها العالم من غير ان نعرف تفسيراً لها. مستويات تجعل رئيس أميركا يصف مستشاره بأنه حقير وعديم الأهمية. والمفارقة ان اختيار جون بولتون لم يكن متوازناً في أي حال. فقد بحث ترامب فيه عن رجل أكثر منه تطرفاً وأكثر خشونة في قضايا العالم. وقد خيّب آماله في ذلك، أما نحن هنا، فالمدينة مبتهجة: جميع الذين حضروا اللقاء الوطني وجدوا الاضواء خضراء، والسلم الأهلي خط أحمر والمحافظ يصلح الشارات، محمولاً على الاكتاف، العام 2020.