إذا كان القصف في غزّة يقتل فإنَّ الجوع والحصار والمرض ينهشون الأرواح بصمتٍ أشد قسوةً ووجع، فلا يكاد يمر يوم واحد من دون أن تسمع أنين المواطنين الذين لاحول لهم ولا قوة، فلا أغذية ولا مساعدات ولا حتى سلع في متناول اليد، فارتفاع الأسعار لعشرة أضعافها فاقم من حجم المعاناة التي فتحت نافذة للمجاعة أن تُطل برأسها اللعين على المواطن المغلوب على أمره، ومما زاد الطين بلة غير استغلال التجار لأوجاع الناس والتحكم في قوت يومهم ورفع السلع، هو سرقة مئات الشاحنات بما فيها من قبل عصابات وقطاع طرق التي أعلنت وحدة سهم "مجموعة مسلحة تابعة لحركة حماس" في الأيام الأخيرة الماضية عن استهدافهم وقتلهم ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه سرقة قوت المواطنين الذين يتضورون جوعاً، وليت هذا العقاب لاقى رادعا عند باقي اللصوص بل استمروا بسرقة شاحنات المساعدات الدولية ولعل أبرز تلك السلع التي تحملها هذه الشاحنات هو الدقيق الذي بات حلم الغزّيين الوحيد في جنوب القطاع والذي يضاهي حلمهم بانتهاء الحرب، فأزمة الدقيق أدت لفارق كبير في شعور المواطن بالجوع، كيف لا واعتماده بالأساس على الدقيق في غالبية الوجبات اليومية.
وبالعودة للمعاناة التي أصبحت عشرة أضعافها في هذه الأيام، التقت مراسلة وكالة "خبر" الفلسطينية بعدد من المواطنين في عدة مناطق من وسط وجنوب قطاع غزّة، واطلعت على أحوالهم ونقلت التقرير التالي:
شوارعٌ وبسطات مليئة ببعض السلع الغير أساسية في حياة المواطن، مثل "الأندومي، والمنظفات التي امتلأت بها جميع الأماكن، والقهوة، والنسكافيه، والسجائر"، تزامناً مع ارتفاع مفرط في أسعار الدقيق والسكر وزيت القلي والبقوليات والنشويات كالأرز بالإضافة للخضار والفواكه.
وفي الأيام الأخيرة وصل إلى أسواق وسط وجنوب قطاع غزة الأصناف السالفة الذكر لكِن إنّ وُجدت بمئة ضعف سعرها الأساسي وبكميات قليلة، فأصبح المواطن يشتري منها بكميات قليلة جداً فالخضار تُباع بالحبة الواحدة بعد أنّ كان تُباع بالكيلو أو الرطل حتى زيت القلي أصبح يُباع بالكوب.
"منذ أسبوع لم نتناول الخبز"
"إسلام خضر" نازحة وأم لسبعة أولاد تسير مسافات طويلة لعلها تجدُ أسعارًا مناسبة يُمكنها أنّ تشتري لأطفالها شيئاً ليأكلوه، تقول: "منذ الصباح الباكر وأنا أسير مشياً على الأقدام أبحث عن دقيق نظيف وغير تالف وليس له رائحة، وثمنه أقل مما يعرض على بعض بسطات التجار والذي وصل سعر الكيلو الواحد منه لـ 40 شيكلاً، وليتني وجدت، جميعهم يبيعون الدقيق التالف المليء بالسوس والدود وكلما سألت البائع أنّ يتهاون معي بثمن الكيلو لكي أتمكن من شراء كيلوين لإطعام أولادي ليومين فقط ولكن كل واحد منهم يقول لي إنّه لا يمكن أنّ يتنازل عن شيكل واحد من ثمنه وبأنّه سيخسر كثيراً إذا باعه للمواطن بسعر أقل مما هو معروض!.".
وأضافت في حديثها لمراسلة "خبر": "أطفالي ومنذ أسبوع لم يتناولوا الخبز كل ما يأكلونه عبارة عن بازيلاء معلبة أو حمص أو بعض من الطعام الذي نحصل عليه من التِكية البعيدة عنا، فيتناول أطفالي السبعة صحن الطبيخ بالملعقة دون الخبز، فلا هو يسد جوعهم ولا يسكت الأصغر منهم عن الصراخ والبكاء يطلبون الخبز".
وأكملت: "للأسف لا أملك المال الكثير لكي أطعم فيه أولادي، فكما تري السلع مرتفعة السعر وإذا لم يكن معي على الأقل مائة دولار لا أستطيع سد جوع أطفالي يومياً".
وتساءلت خضر عن المساعدات التي تُقدمها بعض المؤسسات الخيرية والدولية والتي تضم الكثير الكثير من السلع المنوعة والضرورية، مُضيفةً: "لمن تُوجه تلك المساعدات ولماذا لم يكن لي نصيب منها منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة قبل نحو عام!".
طحين "مسوس وله ريحة وطعم"
من جانبه، تحدث مواطن يُدعى "محمد"، والذي ضاق ذرعا من كمية الضغط الواقع عليه وهو لا يستطيع توفير الغذاء لأطفاله الأربعة الذين أصبحوا يتضورون جوعاً في ظل مجاعة تتفاقم جنوب القطاع، يقول: "الوضع سيء جداً، كنا قبل أكم من شهر نقول الطحين موجود بناكل الخبز حافي وبدناش نشتري السلع الغالية من التجار الي ما بيخافوا ربنا، اليوم لا طحين قادرين نشتري ولا سلع قادرين ناكل، الخبز هو شريان حياة المواطن الغزاوي بياكل منه بدون شي معه، وبياكل منه مع دقة أو زعتر أو أي شي متوفر عندهم، هلقيت المعلبات صرنا ناكلها حاف بدون شي، الزعتر بالمعلقة إن وجد، ولو وُجد طحين بيكون مسوس وريحته فاقت الخيال، بيعمل وجع بطن لساعات، وقد ما خلطناه مع مكونات تانية ع الفاضي ما بيروح منه الطعم ولا الريحة، وياريته بعد هاد كله سعره رخيص، للأسف الكيلو منه وصل لـ 40 شيكل، يعني لأسرة متوسطة عدد الأفراد ما بين 2 أو 4 أفراد، الكيلو ما بيكفيهم غير اليوم والتاني وبنرجع نبحث عن بدائل تانية، والبدائل هي المعكرونة والأرز والاتنين أغلى من بعض، الأرز حسب النوع بين 24 - 30 شيكل للكيلو والمعكرونة أقل جودة نوع وكمية بسعر 10 شيكل والباكيت وزنه 400 جرام، وكل هاد مابيغني عن الخبز، يعني إذا قدرنا ندبر وجبة الغذاء ما بنقدر ندبر الإفطار والعشاء لأنه ببساطة ما في خبز، بيحاربونا بلقمة العيش، بأكلنا وشربنا، فوق الموت كمان موت".
"أولادي اشتاقوا للخبز النظيف والخضار"
"إحسان" تقول: "أولادي منذ ما يقارب الأسبوعين وهم ينامون دون طعام، إن استطاعوا الحصول على وجبة من البازيلاء أو الفاصوليا من الِتكية يمكنهم أن يتناولونها في وجبة الغذاء وبالملعقة، فلا أرز بجانبها أو خبز، حتى أصبح الهزال واضحاً على أجسادهم الصغيرة".
وأردفت: "أصبحنا نشتهي حبة الطماطم والخيار، اشتهينا طبخة صحية وشهية بعيداً عما يقدم في التكيات التي لا تقدم سوى طعام رديء وغير صحي، هذا إن استطاع الجميع الحصول عليها لأنه في أغلب الأوقات يعود أطفالي دون الحصول عليها، فلا أجد سوى المعلبات الغير صحية ليأكلوها بالملعقة ولا تسد جوعهم".
"الأسعار ولا بالخيال"
المواطن "فتحي" بعد أن تجول في أرجاء السوق بحثا عن شيء يُطعمه لأطفاله ويكون في مقدوره شراءه، لم يجد سوى الدُقة الغزاوية، فاكتفى بنصف اوقية منها بـ7 شواكل وعاد لأبنائه لكي يتناولها مع بعض الخبز اليابس الذي جمعوه من الشوارع وبين الخيم، فيضع عليه بعضاً من الماء ليلين قليلاً ومن ثم يتناولونه حتى ولو كان عليه العفن، يقول: "ايش بدي أقول!! في غزة لا عارف تشتري خضار ولا فواكه لأولادك والمئة شيكل ما بتجيب شي وإن جابت بتجيب لوجبة وحدة بس، واحنا من أول الحرب لا شغلة ولا عملة، مصدر رزقنا تدمر وبيوتنا تدمرت وحالياً حياتنا ومصدر أكلنا بايد الي ما بيعرفوش الله، الي كروشهم كبرت من استغلالنا وسرقة مساعدات المفروض كانت جاية النا، هما سرقوها وباعونا اياها بعشرة أضعافها، شفتوا وقاحة وقلة دين أكثر من هيك، اليهود علينا والعرب علينا وأولاد بلدنا علينا والكل بيدبح فينا".
واستدرك: "ابني طلب مني البرتقال، بحثت أشتري له ولإخوانه أكم من حبة ياكلها بيقولي البياع أن سعر الكيلو 40 شيكل والكيلو ما بيعمل غير 4 حبات أو 5 بالكتير، طيب والي ما معاه شو يعمل، الي بيطعمي أولاده من الخبز اليابس بالشوارع شو يعمل؟ يسرق مثلاً عشان يقدر يطعمي كوم اللحم الي عنده حدا يفهمني شو نعمل؟!".
يُشار إلى أنَّ النازحون أصبح اعتمادهم الكلي على ما تقدمه التكيات لهم من طعام إما الأرز أو المعكرونة أو حتى المعلبات ومَن لم يستطع الحصول على وجبته الصغيرة منها سيظل باقي اليوم بدون طعام وإن وجد يكون قليلاً جداً.
"بخبي الأكل لتاني يوم مشان آكله"
"الطفل أمير" بدا وجهه شاحباً وجسده هزيلاً يجلس بجوار أخيه الأصغر على جانب الشارع الذي توزع فيه وجبات الطعام من التكية التي يتجمع عليها مئات الأطفال والكبار ويزاحمون بعضهم بعضاً للحصول على صحن واحد لا يكاد يكفي لشخص واحد فقط، يقول حينما سألته مراسلة "خبر" عن يومه كيف يقضيه وهل يحصل على طعام له ولأخوته فأجاب: "يومي مش يوم ولا حالي هو الحال، انقلبت حياتنا لأسوأ ماكنت أتخيل إني أعيشه بحياتي، يومي صار بس إني أقف على طابور التكية الي كتير مرات بروح منها مش معبي أكل، أو على طابور المياه والباقي من الوقت يا إما بلم خبز يابس من بين الخيم أو بيع الحلو مشان أقدر أشتري أي شي بيتاكل لأخواتي وأهلي".
وأضاف: "كتير نفسي أشتري أشياء انحرمت منها من أكثر من سنة، نفسي بالحلويات والموز والتفاح، نفسي بفطير السبانخ الي كانت أمي بتعمله النا، نفسي بالدجاج واللحمة الي نسينا شكلهم من شهور، بكون بمشي بالشارع بشوف أصناف نفسي فيها وبقف أطلع عليها من بعيد وبعدين بكمل طريقي، بيكون نفسي أشتريها بس من وين؟ سعرها ما بيقدر عليه غير الي عنده راتب كبير أو حرامي عنده مال، لكن الي زينا بس بنشوف وبنمشي".
وسرد "أمير" موقف لا يستطيع نسيانه أبداً، فيقول: "قعدنا أسبوع ما عندنا ذرة طحين، نفسنا بالخبز الحاف وماكنا نشتريه، أبوي يحاول يشتغل أي شي عشان يقدر يأمن لقمة العيش وماكان يقدر، أسبوع كامل ما كنا بنلاقي اشي ناكله غير معلبات البازيلا والفاصوليا بالمعلقة ومش دايما متوفرات، وفي يوم دخل أبوي علينا الخيمة وهو فرحان ومبسوط وبين يديه لفة صغيرة من الرز أعطالو إياها واحد قريبنا، فقعدوا إخواتي مبسوطين حول صينية الرز إلا أنا مع إنه كان نفسي أقعد وأتعشى معهم لكن فضلت أخد منابي مشان أكله تاني يوم الصبح، لأني كان نفسي من 7 أيام أصحى من نومي وآكل أي شي متل العالم، فحطيت كام معلقة من الرز وحطيتهم جنب راسي بالليل وأول ما فتحت عيوني مسكت الصحن وأكلته قبل ما أغسل وجهي، كنت فرحان اني أكلت وزعلان إني ما شبعتش، بس كان لازم آكل لأني بتعب من المشي والشغل وجسمي محتاج لطاقة، فهذا اليوم مش كاين يروح من بالي صحيح احنا لسا بمجاعة ومش لاقيين الأكل ولا الخبز الحاف لكن هالموقف أثر فيا كتير كتير".
الجدير ذكره أنَّ أسعار السلع والمنتجات الغذائية في ازدياد مرتفع مع احتكار التجار للأهم منها كالدقيق والسكر وزيت القلي، وحتى اللحظة يقوم بعض التجار باستغلال حاجة الناس ويرفعون الأسعار دون أي رادع أخلاقي، بالإضافة لاستمرار أزمة الطحين وهو شريان الحياة واعتماد الغزيين الأول في طعامهم حيث قام البعض باستغلال حاجة الناس وفقرهم وجوعهم وقاموا ببيع الدقيق الفاسد لهم والذي يسبب لهم وجع بالبطن وحرقان في البلعوم وبسعر مرتفع جداً حيث وصل الكيلو الواحد منه لـ40 شيكلاً وهو لا يكفي لأسرة مكونة من فردين لأكثر من يومين فما بالك لو كانت العائلة كبيرة وممتدة، وحتى بعد أنّ قام برنامج الغذاء العالمي بإرسال رسائل للمواطنين المستفيدين بالتوجه لأحد النقاط واستلام كيساً من الطحين والذي يزن وزنه 25 كيلو ويصل سعره لنحو 1000 شيكلاً ومع ذلك يقوم التجار بإخفاء واحتكار الدقيق النظيف ويُخرجون الفاسد لبيعه للمواطن دون حسيب أو رقيب.
وكالة "خبر" رصدت أيضاً آراء وأمنيات ووجع الناس واستغلال بعض التجار لمعاناتهم عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" وكانت كالتالي: