إسرائيل : قدرة مثبتة على «بلع» الأرض وفشل كامل في «هضم» الفلسطينيين

حجم الخط

عماد شقور يكتب

كيف نقيّم تطورات وأحداث الأيام الأخيرة، على ساحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، المفتوح والمتواصل منذ أكثر من مئة سنة حتى الآن؟. وقبل ذلك هل في هذه الأحداث ما يمكن استخلاصه من عبر ودروس؟.

نعم. هي تطورات وأحداث فيها كثير من العبر، رغم أنها مجرد أحداث بسيطة في واحد من فصول مسلسل صراع وطني وقومي، بأبعاد دولية فاقعة، غطّى عقودا كثيرة من الزمن، وتخللته معارك كثيرة، يسميها الإسرائيليون، (وبعض العرب)، حروباً، رغم أنها، (في حقيقتها الموضوعية)، مجرد مسلسل من معارك كبيرة وصغيرة، في حرب واحدة طويلة ومتواصلة ومستمرة. و: «الحرب ليست مجرد سلاح ضد سلاح، وانما هي إرادة ضد إرادة، والنصر حليف من يستطيع فرض إرادته على إرادة عدوه»، كما قال الزعيم المصري العربي، جمال عبد الناصر، في خطاب له بعد خمسة اشهر فقط من هزيمة/نكسة حزيران/يونيو 1967، في محاولة منه لتفسير خروج ملايين المصريين والعرب وغيرهم، (في مدينة لاغوس، العاصمة السابقة لنيجيريا، وحدها، خرج أربعة ملايين مواطن افريقي) الى الشوارع يومي 9 و10 يونيو من تلك السنة، مطالبيه بالعدول عن قراره الإستقالة، والتنحّي عن رئاسة الجمهورية.

كان هذا في زمن يحكم فيه عمالقة حقيقيون دول وشعوب العالم: نيكيتا خروتشوف وديغول وكنيدي وآيزنهاور وتيتو ونهرو وغاندي وماو تسي تونغ وعبد الناصر وشو إن لاي وهوشه مِنّه ولومومبا واحمد سيكوتوري وجوليوس نيريري.. بل وليوبولد سنغور المسيحي الكاثوليكي، اول رئيس لجمهورية السنغال الإسلامية.. أيام كان «الدين لله، والوطن للجميع».

بل، تعالوا ننتقل الى الحضارة والثقافة والفن: من ام كلثوم وفيروز وعبد الحليم حافظ الى «الطشت قلّي.. يا بنت ياللي». وفي الرياضة حدّث ولا حرج: من ابو هيف السباح المصري بطل العالم في قطع بحر المانش بين فرنسا وبريطانيا سباحة، الى محمد علي كلاي، بطل العالم في الملاكمة.. وحدث ولا حرج.

ننتقل من التاريخ الى ما نحن فيه في هذه الايام: أرعن في تل أبيب و«اورشليم»، هو نتنياهو، استند الى تصريح/تفويض/سماح من أرعن في البيت الأبيض، هو ترامب، لـ«بسط» السيادة الإسرائيلية على أراض في الضفة الغربية، هي جزء عضوي من أراضي الدولة الفلسطينية، على جزء يسير من «أرض فلسطين»، ولم يكن ذلك أكثر من رشوة معركة انتخابات.

كانت هذه إرادة نتنياهو.. وفي مواجهتها كانت ارادة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، ابو مازن.

لي على الرئيس الفلسطيني، الاخ ابو مازن، ما يعادل، (وربما ما يفوق)، كل مآخذ وانتقادات كل مناوئيه. لكن قناعتي بالتزامه الوطني كاملة وتامّة.

تواجهت وتصادمت إرادتان: إرادة نتنياهو ببسط السيادة الإسرائيلية على أجزاء من أراضي الدولة الفلسطينية، وإرادة أبو مازن بمنع ذلك.

ارتكب نتنياهو حماقة تحديد تاريخ دقيق لذلك، هو الاول من تموز/يوليو الحالي. لم يتم ذلك. نقطة.

هل يمكن أن يتم ذلك لاحقا؟

ربما.. ولكن الى أن يتم ذلك، لدينا متسع من الوقت للتفكير والتدبر.

كل ما تقدم لا يلغي، بأي شكل من الأشكال، حقيقة موضوعية جوهرية، لا أرى مبررا للتغاضي عنها.

هذه الحقيقة الموضوعية هي أن هناك اختلافا جوهريا بين اليهودية والمسيحية والإسلام، حسب ما يقوله ويعتنقه هؤلاء.

“ثبت بشكل قاطع، لأسباب ذاتية فلسطينية عربية أساسا، ولأسباب عنصرية تمييزية يهودية أيضا، استحالة إذابة العرب الفلسطينيين في بوتقة «الأسرلة» .

في المسيحية مبدأٌ اسمه: التبشير.. بمعني تكليف المسيحي أن «يبشر» بالمسيح والانجيل والخلاص.

في الإسلام مبدأ اسمه: الدعوة.. بمعنى تكليف المسلم ان «يدعو« أي انسان الى الإسلام والنطق بالشهادتين.

ليس في اليهودية شيء من ذلك. لا «تبشير» عندهم، ولا «دعوة». فهم، في قناعتهم، دين وقومية.. بل ويضع حاخامتهم ورجال الدين عندهم، عراقيل كثيرة أمام التزامهم باليهودية كدين وكعقيدة وكانتماء.

من كل ذلك نخرج الى واقع ايامنا. أراد نتنياهو بزّ «مهندس» دولة إسرائيل، وبانيها ومعلنها: دافيد بن غوريون، الذي نجح في تحويل خطوط الهدنة مع «دول الطوق»: مصر والأردن وسوريا ولبنان، الى ما يمكن اعتباره «حدود» دولة إسرائيل. ولكن بن غوريون، الأرعن الآخر، تحدث سنة 1956، بعد العدوان الثلاثي (الفاشل)، البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، عن «مملكة يهودا» وسيطرتها على جزر في البحر الأحمر، عند مداخل ومناطق البحر الأحمر الموصلة الى ميناءي العقبة الأردني، وأم الرشراش/ايلات الإسرائيلي.

بعد ذلك، جاءت أيقونة صهيونية جديدة، اسمها: موشي ديان، الذي ارتبطت بتاريخه جملتان :

ـ أنا إلى جانب الهاتف، بانتظار اتصال طرف عربي معلنا استسلامه. (وذلك ما لم يتم، وبمقابله، وبدلا عنه، جاءته «لاءات» الخرطوم الثلاث.

ـ وجملة: «شرم الشيخ بدون سلام، خير لنا (لإسرائيل)، من سلام بدون شرم الشيخ». وشاءت الأقدار أن يكون هو نفسه، وزير خارجية حكومة مناحيم بيغن، الذي يتفاوض وينسحب من كل شبه جزيرة سيناء المصرية، و«يتبالد» عند موضوع منطقة «طابا»، ثم ينسحب منها تنفيذا لقرار التحكيم الدولي.

نتنياهو ليس بن غوريون، ولا هو اشكول.. ولا حتى غولدا مئير ولا مناحيم بيغن.. بل ولا شارون ايضا.

أبو مازن ليس عبد الناصر ولا ياسر عرفات ولا احمد الشقيري ايضا. لكنه مناضل وطني شريف، علقت به، وتعلق به هذه الأيام، صفات سلبية، على صعيد الإدارة والمال والعائلة وغيرها من الموبقات. لكنه ملتزم وعنيد وطنيا. وكل محاولة للخلط بين الموبقات والإيجابيات، تتضمن، بالتأكيد، ظلما صريحا للرئيس أبو مازن، وتاريخه وحاضره.

تواجهت في اليوم الاول من شهر تموز/يوليو الحالي، إرادتان: ارادة نتنياهو ضم أراض من أراضي الدولة الفلسطينية إلى إسرائيل، وبسط السيادة الإسرائيلية عليها. وإرادة أبو مازن بمنع ذلك.

نجح ابو مازن في كسب الأردن، (اضافة لقناعات ومصالح أردنية واضحة ومعروفة)، فتحركت الإدارة الأردنية، مشكورة، بكل طاقتها.. وأثمر هذا التحرك خيرا عميما.

فشلت محاولة نتنياهو بدء الضم لأراض من الدولة الفلسطينية، وفرض «السيادة» الإسرائيلية عليها ابتداء من الأول من هذا الشهر، ونجح أبو مازن في التصدي لذلك ومنعه. لكن.. ما لم يتمكن نتنياهو من فرضه في التاريخ المحدد الذي أعلنه هو بنفسه، بشكل مسرحي استعراضي باهر، يمكن له أن ينجح في تحقيقه في موعد وتاريخ لاحق.

على أن كل ذلك لن يغير كثيرا في الحقائق القائمة على أرض الواقع. كل الضفة الغربية، بما في ذلك القدس العربية ومحيطها، واقعة تحت السيطرة والاحتلال والاستعمار الإسرائيلي عمليا.. وفرض السيادة ليس آخر المطاف، ويكاد الفلسطيني (وغير الفلسطيني)، أن لا يرى فروقا جوهرية، بل ولا فرقا جوهريا واحدا، بين أن يكون الآمر الناهي هو الجنرال شلومو، او السفير شلومو، او المندوب السامي شلومو.

ثبت بالدليل القاطع، على مدى العقود السبعة الأخيرة، أن الحركة الصهيونية العنصرية، وان «دولة» إسرائيل قادرة بكفاءة أن «تبلع» أرض فلسطين.

لكن ما ثبت بشكل قاطع ايضا، لأسباب ذاتية فلسطينية عربية أساسا، ولأسباب عنصرية تمييزية يهودية ايضا، استحالة إذابة العرب الفلسطينيين في بوتقة «الأسرلة».

* كاتب فلسطيني .