لماذا؟!

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

لو سألت أي مواطن عربي: هل تحلم بالسفر إلى بلد أجنبي؟ أميركا، كندا، أستراليا، أوروبا؟ سيجيبك على الفور «نعم». ومن يتردد، أو يجيب بـ»لا»، إما لأنه يعتقد أن هذه البلدان لن تمنحه تأشيرة دخول، أو لأنه لا يمتلك تكاليف السفر، أو لأنه لا يعرف إجراءات الهجرة المعقدة، أو لأنه مؤمن بضرورة الصمود والثبات فوق «الأرض المقدسة».. لكنهم في جميع الأحوال غير راضين عن واقعهم، وحلموا ولو لمرة بالهجرة، بمغادرة هذا الواقع البائس.
من يتعرض لاضطهاد ديني، أو طائفي، ومن يهدم بيته، أو فقد أسرته جراء الحروب الأهلية، ومن يتعرض للتمييز، أو للقمع، وتكميم الأفواه، ومن يعاني الفقر والبطالة، ومن لديه حلم، أو مشروع كبير، ومن يخشى قادم الأيام، ويخاف من الحروب، ومن يريد لأطفاله مستقبلا آمنا، ومن يكره الظلم والفساد والمحسوبيات، ومن يحب البيئة النظيفة، والالتزام بالقوانين.. كل أولئك يفكرون بالهجرة، أو يتمنونها.
الوطنيون الذين أمضوا شطراً من حياتهم في المعتقلات، والمتدينون الذي يريدون أن يعبدوا ربهم دون خوف، وقادة أحزاب الإسلام السياسي الذين يريدون عقد مؤتمراتهم ونشر صحفهم دون قمع، والعباقرة الذين يحتاجون مراكز علمية وجامعات مرموقة تستوعبهم، وأبناء الأقليات المضطهدة، حتى المثليون والمتحولون جنسيا.. كل أولئك يفكرون بالهجرة.
عالم الاجتماع المشهور علي الوردي قال ذات مرة: «لو خُيِّـر العرب بين دولتين علمانية ودينية، لصوتوا للدولة الدينية، وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية».
هذه ليست دعوة للهجرة، ولا دعاية للدول الأجنبية، فهي ليست الجنة الموعودة كما يتوهم البعض، ولكنها دعوة للتفكر.. لماذا واقعنا على هذه الدرجة من البؤس؟ ولماذا تقدم العالم؟ وبقينا متأخرين؟ وكيف بنت الشعوب دولا محترمة، ونماذج رائعة في الحكم؟ ولماذا بلداننا طاردة لأبنائها؟!
بعد الحرب العالمية الثانية تخلت اليابان عن عقيدتها الكولونيالية، وعن دياناتها، وأنزلت آلهتها من عليائها، ولم تسعَ للانتقام، ولم تبنِ جيشا، واتجهت كليا إلى العلم والتكنولوجيا والتصنيع.. ألمانيا جمعت حطام ومخلفات الحرب، ودفنتها تحت أكوام كبيرة من التراب، وزرعت فوقها الأشجار والورود، وجعلت منها متنزهات بديعة يلعب فيها الأطفال ويفكرون بمستقبلهم.
السويد احتفلت في العام 2014 بمرور مائتي سنة دون إطلاق نار، ولا خوض حرب.. سويسرا منذ 700 سنة لم تخض حربا واحدة.. الصين بعد أن تخطت المركزية الحزبية، وتجاوزت إرث «ماو»، ودّعت الفقر والمجاعات، وها هي الآن على وشك التربع على عرش العالم تكنولوجيا وصناعيا.. وكذلك فعلت كوريا الجنوبية، وسنغافورة وماليزيا.. حتى رواندا تجاوزت ذكرى المذبحة والحرب الأهلية، وها هي اليوم في مقدمة الدول الإفريقية.. كل العالم يتقدم، إلا الدول العربية.
لسنا هنا بصدد تحليل الأسباب والعوامل التي أفضت إلى هذه النتائج، بل لاستعراض نماذج من التصرفات وطرائق التفكير لدى الإنسان العربي، والتي هي نتاج لهذا الواقع، ومن أسبابه أيضا؛
المواطن العربي يحب الحرية، ويعشق النظام والقانون.. شريطة أن تكون على مقاسه، وتحقق مصالحه، وعندما لا تكون كذلك، يتجاهلها، بل وينكرها على غيره، وقد يحاربها.. فمثلا تراه يطالب بالديمقراطية، وبحرية التعبير، وينتقد الحكومات القمعية، لكنه إذا سمع صوتا مخالفا لمعتقداته، أو رأى تصرفا لا يتوافق مع تنشئته ينكره، ويحاربه بكل ما أوتي من سلطة وقوة.. يريد الحرية له فقط، والعيش الكريم لجماعته فقط، وحرية التعبير لما يتلاءم مع أفكاره وقناعاته.
يريد حقوقه الشخصية كاملة غير منقوصة، لكنه يتلكأ عن القيام بأدنى واجباته، يتهرب عن دفع الضريبة، لا يمارس أي عمل تطوعي، يتحايل على القانون بشتى الطرق لخدمة مصالحه، وقد يغش، ويستغل، ويأكل حقوق غيره..
يطالب بحقوق طائفته كاملة، لكنه يحرّمها على غيره، خاصة إذا كانوا أقلية، مثلا كم شخصا يوافق على منح الطائفة الأحمدية أو البهائية حق ممارسة طقوسها الدينية بحرية؟
ينبذ الطائفية ويلعن الطائفيين، فإذا كان سُنيا ينتفض ويغضب ويتذكر كل ثارات التاريخ بمجرد سماعه كلمة شيعي.. والعكس صحيح.
ينتقد اضطهاد المسلمين في الصين والهند، لكنه لا يعترض على خطيب الجمعة وهو يصب لعناته على المسيحيين واليهود، ويدعو عليهم بالهلاك.
يطالب دول الغرب بفتح مساجد للمسلمين، ثم يعترض على بناء كنيسة في مدينته.
ينتقد عنصرية أميركا، لكنه يتغاضى عن عنصريته.. ينتقد قوانين اللجوء والإقامة في أوروبا، لكنه يتناسى أن البلدان العربية لا تعطي للأم حق توريث الجنسية لأبنائها.
يختار من الدين ما يناسبه ويريحه (الزي، والمظهر، والطقوس، تعدد الزوجات) ويتجاهل جوهر الدين، وتعاليمه الإنسانية والأخلاقية، فيعتدي على جاره، ويحرم شقيقاته من الميراث، ويستغل العمّال، وقد يتصدق على الفقراء في رمضان، لكنه في شوال سيطرد فقيراً من بيته لأنه تأخر عن دفع الإيجار.
ينتقد الواسطة، لكنه سيستغل كل معارفه وأقاربه حين يريد توظيف ابنه، أو تمرير معاملة في دوائر الدولة.
يطالب بسيادة القانون، وإذا حصلت معه مشكلة يلجأ للعشيرة فورا.. وحتى ضمن العقلية العشائرية في حال وقوع مشكلة، إذا كان المعتدي من جماعته يصبح متسامحا ويدعو للصفح، وإذا كان المعتدي من عشيرة ثانية يطالب بالثأر والانتقام.
يحب النظام ويكره الفوضى، لكنه يوقف سيارته في المنطقة الممنوعة، ويعرقل السير، ويتجاوز الطابور، ويلقي نفاياته في الشارع، ويبيح لنفسه كل ما ينتقده في الآخرين.
يحب الهدوء، ويكره المزعجين، وإذا نجح ابنه في التوجيهي يفتح جبهة من الألعاب النارية، وعندما يزوجه يغلق الشارع، ويفتح السماعات بأعلى صوتها حتى آخر الليل.. تحت حجة «مرة في العمر»..
المشكلة ليست مقتصرة على الأنظمة القمعية والعميلة والفاسدة، ولا على حيتان البلد التي احتكرت اقتصادها، وحرمت الشبان من فرصهم.. المشكلة أساسا في العقلية السائدة، وفي الوعي الجمعي، وفي التربية المجتمعية، وبسلوك الأفراد.
مصدر هذه العقلية الانتقائية، ذات المعايير المزدوجة هو فكرة «حكم الأغلبية»، الأغلبية التي تفصّل مفاهيم الحرية والقانون والنظام والحقوق على مقاسها الخاص، وتنكره على غيرها.
العقلية التي تكره كل شيء مختلف عنها، وتعتبره شاذا، ويشيع الفاحشة.
الأغلبية القوية، التي تريد فرض مفاهيمها وقيمها وأنماط حياتها على سائر المجتمع بصرف النظر عن اختلافاته وتنوعه.
سنتغير للأحسن، عندما نصير شعوبا مظلومة فعلا، لا ظالمة، وعندما نصبح أقل فسادا وقمعا وتخلفا من حكوماتنا، التي نلعنها ليل نهار.