عوامل الانتصار: القدرة على القرار والتحكم أشرف العجرمي

images
حجم الخط

هناك توصيفات كثيرة للهبة ورد الفعل الشعبي الذي حصل في الأيام الأخيرة بما فيها العمليات ضد المستوطنين، فالبعض تحدث عن انتفاضة ثالثة والبعض الآخر تحدث عن مجرد ردة فعل ستنتهي بسرعة. وفوق هذا وذاك تم تناول خطاب الرئيس أبو مازن في الأمم المتحدة باعتباره إما ملهماً للجماهير أو محبطاً لها، وبالتالي تأتي تفسيرات للغضب الشعبي بناءً على رؤية تأثيرات الخطاب، ولكن ما حدث هو بدون شك تطور مهم يعكس بطريقة أو بأخرى سوء الأوضاع ورغبة الناس في التخلص من هذا الواقع وهو بدرجة أو بأخرى ينسجم مع الرأي القائل أن الوضع الراهن لن يستمر على ما هو عليه إلى مالا نهاية.
بغض النظر عن التسمية التي يمكن أن نطلقها على الأحداث التي لا تزال مستمرة، فهي تعبير عن الغضب الشعبي العارم الناتج عن خيبة الأمل والإحباط اللذين تولدا نتيجة لوصول العملية السياسية إلى طريق مسدود، وللواقع المأساوي الذي يعيشه شعبنا تحت الاحتلال المستمر في إجراءاته التعسفية وسياساته الاستيطانية التي تستولي على الأرض وتخلق حقائق جديدة عليها كل يوم، بالإضافة إلى الأعمال العدائية والاستفزازية التي تشهدها القدس المحتلة وباحات الحرم القدسي، حيث زيارات المستوطنين والعصابات المتطرفة التي تتحدث صراحة عن هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل اليهودي الثالث مكانه، وأخطر ما في الموضوع هنا هو تصريحات وزراء في الحكومة الإسرائيلية على رأسهم المتطرف أوري أريئيل من (البيت اليهودي).
كما أن الوضع الاقتصادي العام ليس جيداً، وهذا ينطبق على الحكومة التي تعاني من عجز مالي ينعكس على القطاع الخاص وعلى كل القطاعات، بما في ذلك البطالة المستشرية في أوساط الشباب وضعف القدرة الشرائية للأسر الفلسطينية نتيجة لغلاء الأسعار ولارتهان عدد كبير من المواطنين لقروض حصلوا عليها من البنوك. وكل سبب من هذه كفيل بتفجير الموقف وإن كان من المبكر الحديث عن انتفاضة ثالثة، لأن حجم المشاركة الشعبية في المواجهات مع الاحتلال لا يزال متواضعاً حتى لو انتشرت المواجهات في مناطق مختلفة من الوطن.
ما جرى مهم لإلقاء الضوء على الواقع المرير في الأراضي الفلسطينية التي تكاد تنسى في غمرة الأحداث الدموية التي يشهدها العالم العربي في سورية واليمن وليبيا والعراق وفي مصر، وأزمة اللاجئين السوريين المتدفقين إلى أوروبا والذين باتوا يؤرقون راحة قادة هذه القارة. ومرة أخرى يذكر الفلسطينيون العالم بالصراع المهمل في ركن الاهتمامات الدولية ويطرحون قضيتهم بقوة على الطاولة بعدما غابت عن خطابات غالبية خطباء الجمعية العامة في دورتها السبعين، وأهميته تكمن في اشتداد الصراع مع المشروع الاستيطاني التهويدي المكثف الذي ينهي بشكل عملي فكرة حل الدولتين، وإظهار فكرة أن المراهنة على الزمن لجعل الفلسطينيين ينسون أو يسلمون بالأمر الواقع هي غبية وغير واقعية، وأن الهدوء الذي كان قائماً لفترة ما لا يمكن أن يتحول إلى نمط حياة في ظل الاحتلال.
ولكن بالرغم من أهمية هذه الرسالة التي يوصلها شعبنا لإسرائيل والمجتمع الدولي لا بد من التذكير بالمأساة التي لحقت بنا نتيجة لسوء التقدير والتخطيط وعدم القدرة على التراجع واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وهنا أشير بالتحديد لما جرى في الانتفاضة الثانية التي كانت نتائجها كارثية على الشعب الفلسطيني، ليس فقط في العدد الكبير من الشهداء والجرحى والمعاقين والأسرى والدمار الكبير الذي لحق بمؤسساتنا وبنيتنا التحتية وما بنيناه على مدار الأعوام لنمهد لدولة مستقلة حديثة، بل كذلك لأننا بطريقة فعلنا الخاطئة ساهمنا في دفع عملية الاستيطان وبناء جدار الفصل العنصري وعمليات الاجتياح وكل ما قامت به إسرائيل مستخدمةً ذريعة الرد على العنف الفلسطيني.
ربما كانت الانتفاضة الثانية عفويةً في بدايتها كونها جاءت رداً على زيارة أرئيل شارون زعيم المعارضة آنذاك للمسجد الأقصى في شهر سبتمبر (أيلول) من العام 2000، وكونها تعبيرا عن رد الفعل الشعبي على فشل العملية السياسية وخاصة قمة كامب ديفيد، ولكنها تحولت بعد ذلك إلى فعل منظم ثم إلى فوضى عارمة مدمرة. ولم تستطع القيادة الفلسطينية اتخاذ القرار الصائب بوقف العمل المسلح في مراحل غاية في الحساسية والخطورة وبالذات بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول من العام 2001 في نيويورك وواشنطن، كأننا لم نستوعب أن الكون تغير وانقلب ولا مجال للعبتنا الصغيرة في وقت يلعب فيه الكبار ويجري فيه تدمير دول وكيانات.
نحن هنا لسنا بصدد مراجعة كاملة لأخطائنا التي نختلف حولها حتى لو كنا لا نختلف حول الثمن الباهظ الذي دفعناه والذي أعاد قضيتنا سنوات بل عقودا إلى الخلف وكانت سبباً في الصراعات الداخلية والفوضى والانقلاب والانقسام، ولكن هذه الأيام لا بد أن تذكرنا بالماضي كي لا نكرر أخطاءنا. والكلمة الفصل في كل مرحلة هي القدرة على اتخاذ القرار السليم في توقيته الصحيح دون خجل أو وجل ودون خوف من الانتقاد والتهجم، وهذا دور القيادة أساساً وليس أي جهة أخرى. وكلما كانت لدينا قدرة على التحكم في وضعنا وفي حجم النار وقوة النضال وتوقيته كنا قادرين على تجييره لصالح تحقيق إنجازات مهمة للقضية الوطنية، فلا معنى لكفاح يقوم فقط على التضحيات أو مجرد مواجهة العدو وإيقاع خسائر في صفوفه، ان لم تكن هناك قدرة على التحكم والتوظيف الصحيح. ونحن أمام مرحلة جديدة علينا فيها أن نحسن اتخاذ القرارات ونعرف متى نتقدم ومتى نتوقف وكيف نفعل كل شيء بالطريقة المثلى والمفيدة، فهل تعلمنا أم أننا لا نزال أسرى شعارات كبيرة طنانة؟