فـلـسـطـيـن أولاً ودائـمـاً

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

بقلم: عاطف أبو سيف

يفتح الانزلاق الإماراتي نحو تطبيع العلاقة مع الاحتلال سؤال التطبيع بشكله الأوسع، كما يفتح السؤال الأعمق عن الحالة العربية التي لم تعد صحية بأي حال. وربما لم يكن هذا الانزلاق مفاجئاً بالقدر الذي تم استقبال الأمر به، بقدر ما كان مفاجئاً في طبيعته وتوقيته وتجاوزه لكل قيم التعاون العربي، بل وربما انحيازه من أجل طعن الفلسطينيين بشكل مؤلم. ففي الوقت الذي يرفضون فيه «صفقة القرن» ويرفضون أي انتقاص من حقوقهم الأساسية، فإن مثل هذا الإعلان يأتي لينحاز بشكل سافر للاحتلال ولمواقفه، ويطعن الظهر الفلسطيني الصلب وهو يعاند مخرز الجلاد. بهذا فإن الأمر بدا مفاجئاً وبدا غير منطقي رغم أن أي علاقة مع الاحتلال تعد خروجاً عن الإجماع العربي.
هل يسأل أحدكم بسخرية عن الإجماع العربي؟ وهل من يقول: إن هذه الحالة الرثة التي تعيشها الأمة العربية من نتاج ما بات يعرف بالربيع العربي؟ وهل من يقول: إنه ليس عربياً وليس ربيعاً؟ كل هذا صحيح، ولكن هذه هي الحقيقة، فإن ما حدث خلال هذا الربيع هو تمزق الحالة العربية بشكل أكثر. في مقالة سابقة على هذه الصفحة، ربما قبل سنوات، جادلت بأن ما يحدث في هذا الربيع وهذه الثورات هو المرحلة الثانية من تمزيق الدولة العربية. خلال سايكس بيكو، تم تمزيق القطر العربي إلى أقطار وتمت مراعاة حدود معقولة من التناغم الجغرافي وإبداء بعض الحساسيات للسياقات التاريخية، وأثبتت الدولة العربية خلال مرحلة ما بعد التحرر أنها غير قادرة على إنجاز توقعات مواطنيها، بل كشفت عن أخطاء جوهرية سواء في تطور بناها المؤسساتية أو في أداء نخبتها. وعجزت النخبة الثورية التي دحرت (مع التحفظ على الكلمة) الاستعمار في بناء دولة قطرية حقيقية، وتحولت إلى أداة قمع للمواطنين فاقت ممارسات بعضها بشاعة الاستعمار. عجز الدولة القطرية العربية كان مفاجئاً للنخبة الفكرية والمعرفية التي لجأت للعيش في عواصم بلدان الاستعمار، ووجدت فيها جنة يهربون إليها من بطش الجنرالات الذين ورثوا أو هم كانوا من ركب حصان التحرير. وبعبارة أخرى كانت تلك أول الحالات العربية بعد التحرر.
لم يتم خلق الدولة القطرية لتذهب وتنتهي بعد حين، فالاستعمار حين رسم معالم المنطقة وفصّل حدود الدول المختلفة لم يكن ليفعل ذلك حتى ينتهي مشروعه مع رحيله أو خروجه من قلبها. لذلك كانت الدعاوى القومية بتجلياتها المختلفة تجد مقاومة شرسة من القوى الاستعمارية حتى بعد التحرر، وكان يتم النظر إلى كل محاولات توحيد البلدان العربية على أنها تهديد للمصالح العليا للقوى الكبرى. بعبارة كثيرين، فإن الدولة القطرية لم توجد لتذهب بل لتبقى. في المرحلة الثانية من تمزيق الحالة العربية تم إيقاظ كل الهويات الفرعية في كل البلدان العربية حتى يتم تمزيق كل دولة وتقسيمها إلى مناطق نفوذ مختلفة.
النتيجة التي أريد أن أصل إليها هي أن هذه الحالة خلقت انشغالات قوية بالحالات القطرية، وانغماساً على صعيد الهموم في تفاصيل حياتية مختلفة، جعلت شكلياً التعلق بقضايا أخرى يعتبر ترفاً. بدأ هذا من موجة الإعلام الموجه عربياً وخارجياً الذي جعل من الصراع صراعاً فلسطينياً إسرائيلياً، ومن قضية فلسطين قضية الفلسطينيين، وجعل الدول العربية وسيطة بين إسرائيل والفلسطينيين حتى لا يحدث تصعيد. وهؤلاء الوسطاء العرب صارت علاقتهم تتعزز مع الاحتلال، وباتوا يشتغلون عنده في سبيل إرضاء واشنطن وتحسين العلاقة معها، خاصة أن شماعة «الدمقرطة» التي ظهرت بعد الربيع العربي جعلت أمراء تلك الدول يخافون بشدة على كراسيهم. فالمطالب الشعبية بالتحول الديمقراطي لا تتم دون تحريك السم الأميركي.
وفيما كانت إسرائيل ترفع وتيرة قلقها مما سمته هي «نزع الشرعية» عن إسرائيل بسبب الحراك الدبلوماسي الفلسطيني الناجح في أروقة المنظمات الدولية ولدى دول العالم المختلفة مدعومة بحركات المقاطعة، كانت بعض الأنظمة العربية تقدم خدمات مجانية لتل أبيب حتى تخرجها من الحرج. كل باب يغلقه الفلسطينيون في وجه إسرائيل يفتح لها البعض مقابله أبواباً تحت حجج مختلفة. ولما كانت تلك الدول غاية في الديكتاتورية والقمعية، فإن رأي مواطنيها يتم تشكيله وفق التوجهات الأميركية. ما سيكون عليه الحال في المستقبل، ولنتذكر هذا، هي دولة تدعي الديمقراطية (إسرائيل) تحمي دولاً قمعية. إنه نفس النموذج الذي طورته واشنطن في فترات سابقة مع دول أميركا اللاتينية حين أطاحت ببعض النظم المنتخبة من أجل حلفائها الجنرالات.
يمكن لكل العالم أن يعترف بإسرائيل، لكن لا يمكن لكل العالم أن يجبر ابنتي يافا أن تقول: إن يافا هي «يافو» وأنها ليست مدينتها كما كانت مدينة أجدادها. هذه هي الحقيقة. ويمكن لإسرائيل أن تنعم بكل مجاملات العالم وتبيعه أسلحتها التي تجربها علينا كفلسطينيين وليطرب بعض العرب لذلك، لكن طفلاً في اليرموك وحده من يجعل هذه المجاملات باطلة لأنه لا يعترف بها. ويمكن للكل أن يدير ظهره لنا، لكن وحده حنظلة الفلسطيني الذي يحول كل وجوه العالم إلى رسوم باهتة حين يدير لها ظهره.
أما بخصوص التطبيع، فيجب علينا أن نراهن على حصانة ومناعة الثقافة العربية التي وحدها يمكن لها أن تكشف زيف الرواية المضادة. وهذا يتطلب إعادة الاعتبار لعلاقتنا مع قوى المجتمع العربي، وعدم الركون إلى العلاقات السطحية مع الأنظمة؛ لأن الأنظمة تبحث عن بقائها أما المواطن فيبحث عن الوطن، وفي القلب من الوطن فلسطين. ليس مهماً تفاهات البعض بأن فلسطين ليست قضيتهم لأنهم قروراً ببساطة أن يصبحوا عبيداً لرواية الاحتلال، المهم أن هؤلاء لا قضية لهم، وبالتالي سيجدون أنفسهم خارج سياق المجتمع. لا «فيسبوك» ولا السوشيال ميديا ولا أكبر الفضائيات يمكن لها أن تخلق حقائق دائمة، بل صراخ عابر لصيادين في عتمة الصحراء، أما الحقائق الأزلية فلا تتغير، ومنها وربما وأهمها أن فلسطين ستظل قضية العرب، وهي أولاً وثانياً وثالثاً وأبداً.