فـلـسـطـيـن تـنـتـصـر

WptCE.jpg
حجم الخط

الكاتب: رجب أبو سرية

 

يمكن القول باختصار، إن فلسطين أخيرا تنتصر، وذلك بعد عقود طويلة، من الظلم التاريخي الذي وقع عليها وعلى شعبها، ليس فقط نتيجة إقامة دولة إسرائيل بدلا منها، أو على أنقاضها، وليس بسبب قتل عشرات الآلاف من شعبها العام 48، وتهجير مئات الآلاف من وطنهم وحسب، ولكن نتيجة عدم إقامة دولة فلسطين، إلى جوار دولة إسرائيل، وفق قرار التقسيم، لا في العام 48، ولا في كل الفترة التي تلته، بما أبقى على نار الصراع مشتعلة، وكان ذلك سببا في اندلاع عدة حروب خلال العقود الماضية، وأخيرا، ونأمل أن يكون آخرا، حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية، التي لم يشهد العالم لها مثيلا، منذ الحرب العالمية الثانية، وراح ضحيتها حتى الآن أكثر من 10% من سكان قطاع غزة، والتي أظهرت المدى غير المسبوق لتوحش إسرائيل بحكومتها اليمينية المتطرفة، وجيشها وأجهزة أمنها، الذين اظهروا عداءهم لكل دول وشعوب الجوار، وتجرؤوا على الإعلان بوضوح وصراحة عن هدفهم المتمثل في تغيير الشرق الأوسط بإقامة دولة إسرائيل الكبرى، ما بين نهري الفرات والنيل، وتضم ثلاث دول كاملة، هي فلسطين، الأردن ولبنان، وأجزاء تصل إلى نصف سورية، العراق، السعودية ومصر.
وانتصار فلسطين المتمثل بتدافع دول الغرب، التي ظلت حتى الأمس منحازة لإسرائيل، تدعهما بكل وسائل القوة والثبات، نحو الاعتراف بدولة فلسطين المستقلة، له دلالات حاسمة، ستغير فعلا من وجه وجوهر الشرق الأوسط، لكن بالطبع ليس وفق ما تمناه اليمين المتطرف العدواني الإسرائيلي، بل لصالح شرق أوسط مستقر وآمن، بعد أن أدرك الإقليم والعالم، بأن عدم وجود فلسطين على خارطة الدول المستقلة، كان سببا في اندلاع كل تلك الحروب، فإن قيامها سيكون سببا في عكس ذلك تماما، أي في تحقيق الأمن والسلام في المنطقة التي تتوسط العالم، والتي تعتبر حيوية ومهمة جدا خاصة للغرب الأوروبي الذي يحتاج طاقة الشرق الأوسط من النفط والغاز، وطرق تجارته العالمية، مضيق هرمز، باب المندب، وقناة السويس.
أن تعلن بريطانيا اعترافها بدولة فلسطين، مع كل من كندا واستراليا والبرتغال، يعتبر حدثا مدويا، كما انه يدل على تغيرات سياسية دولية مهمة للغاية، فيما يخص اصطفافات الدول بما يخص الصراع الكوني حول طبيعة النظام العالمي، فبريطانيا إضافة إلى دورها في إقامة دولة إسرائيل، منذ وعد بلفور، وفيما تلاه من ثلاثة عقود سهلت خلالها بوصفها دولة الانتداب على فلسطين الهجرة اليهودية، ومن ثم ساعدت في إنشاء الجيش الإسرائيلي، حيث شجعت قيام المجموعات اليهودية المسلحة (الهاغاناه وشتيرن والأرغون) ما زالت دولة عظمى اقتصاديا وعسكريا، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، وأهم دلالة إعلانها الاعتراف بدولة فلسطين، هو انحيازها لفرنسا، فيما يبذله رئيسها الشجاع إيمانويل ماكرون من جهد لتنفيذ حل الدولتين منذ وقت، بعد أن كانت بريطانيا، حصان طروادة أميركيا في قلب أوروبا، لدرجة أن أميركا شجعتها قبل سنوات قليلة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو القائم على الثنائي الفرنسي/الألماني، حتى لا يخرج من جيب التبعية الأميركية ويتحول لقطب دولي آخر.
إعلان بريطانيا، كندا، استراليا والبرتغال الاعتراف بدولة فلسطين زلزل إسرائيل، حيث سارع متطرفو حكومة الإبادة الجماعية إلى التهديد بالرد، بعد أن ظهرت «عصبيتهم» واضحة، ورغم أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عقد اجتماعا خاصا لاتخاذ قرار بالرد، وهذا أمر غريب، ذلك أن دول الغرب تعلن منذ عدة أسابيع عن هذه الخطوة، لكن إحاطة الموقف الأوروبي بموقف عربي مساند، ضيق على إسرائيل خيارات الرد، وهنا لا بد من الإشادة بموقف الإمارات الذي لوح بتجميد اتفاقية أبراهام في حال كان الرد بضم الضفة الغربية، وكذلك التهديد السعودي، ليس فقط بوقف التطبيع، بل بما هو أبعد، والسعودية تفعل ما هو أبعد من ذلك بقيادة مؤتمر نيويورك مع فرنسا، وفعلا طرح نتنياهو الذي استبعد بن غفير وسموتريتش، حتى يخرج بقرار يتجنب ردود فعل إقليمية ودولية أكثر حدة، ومن قبيل ضم الأغوار، أو التلاعب بتصنيف الأرض الفلسطينية بين «أ، ب، ج»، وحتى إغلاق قنصليات دول الغرب في القدس، ثم رد بالقول، إن الرد سيكون بعد عودته من نيويورك، أي بعد إلقاء خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
صحيح أن حرب الإبادة الإسرائيلية أظهرت القبح الإسرائيلي بأسوأ صورة ممكنة، وأظهرت أن إسرائيل تحولت من «دولة الغرب» مشروع دولة امبراطورية تسعى إلى التوسع والسيطرة عبر احتلال أراضي دول الجوار، وظهرت ليس عبر حرب خاطفة كدولة تدافع عن نفسها، بل على العكس دولة تعتدي على كل الجوار، وخلال عامين واصلت حرب الإبادة في غزة، والاستيطان في الضفة والغارات على لبنان وسورية، واليمن ومن ثم إيران، واعلن رئيس حكومتها عن هدفه بتغيير الشرق الأوسط، وإقامة دولة إسرائيل العظمى، لكن صمود وكفاح الشعب الفلسطيني طوال ثمانية عقود، وتحمله ما لا تتحمله الجبال، خاصة ما يواجهه مليونا إنسان منه في قطاع غزة من قتل يومي وتدمير شامل، وإجبار على النزوح متواصل، وتجويع وتعذيب بلا حدود، كل هذا اجبر العالم على أن ينتصر لفلسطين، إضافة بالطبع لحكمة القيادة السياسية، التي عضت على النواجذ طوال ثلاثين سنة، من السعي وراء السلام الذي صنعته مع شريك إسرائيلي عابر، ولم يبقَ من مهندسي السلام، سوى الرئيس محمود عباس، بعد أن قتل التطرف الإسرائيلي شركاءه: اسحق رابين وياسر عرفات، فيما قضى شمعون بيريس «يتيما سياسيا».
بالطبع، اعتراف دول الغرب، الذي يعني بأن اهم منطقة كانت قد توقفت عند حدود الاعتراف بدولة فلسطين المستقلة، هي أوروبا، قد انتهى، هو مهم للغاية، لكنه في حقيقة الأمر لا تكمن أهميته في حد ذاته، بل هو لا يكفي، وحتى لا يكون مجرد فعل رمزي، أو موقف تضامني، نزل فيه قادة الغرب عند إرادة شعوبهم التي ما زالت تجوب شوارع العواصم والمدن، وآخرها ما يحدث في إيطاليا، بالملايين، تندد بإسرائيل، وتطالبها بوقف حرب إبادتها لفلسطين بجناحيها في غزة والضفة، لكن هذا الاعتراف يعتبر قوة دفع هائلة للعمل من أجل حل الدولتين، وهنا تبدو القيادة الدولية ــ الإقليمية لفرنسا والسعودية في غاية الأهمية، وهذا ما يفسر أن الرئيس ماكرون رغم إعلانه عن قراره الاعتراف بدولة فلسطين منذ آخر تموز الماضي، حين كان كير ستارمر رئيس الوزراء العمالي البريطاني ما زال مترددا، انه قرر الإعلان رسميا خلال مؤتمر «نيويورك 2»، وقد كان «نيويورك 1» بمثابة بروفة وتحضر للمؤتمر على هامش اجتماع الجمعية العامة، لدفع الدول المشاركة التي لم تعترف بفلسطين بعد إلى الاعتراف.
بالنتيجة، سيكون هناك اكثر من 160 دولة من اصل 193 دولة في العالم تعترف بدولة فلسطين، وهو عدد يقارب عدد الدول التي تعترف بإسرائيل، بما يعني العودة لحالة التوازن التي هي جوهر قرار التقسيم وحل الدولتين، والأهم هو أن ذلك يشكل قوة دفع ومقدمة لمواصلة الطريق نحو تنفيذ خطة الرئيس ماكرون لحل النزاع، التي حدد اهم ملامحها في مقابلة مع شبكة «سي بي أس»، أول من أمس، وتتمثل في ثلاث مراحل: الأولى هي مرحلة الطوارئ وتشمل وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات وإطلاق الرهائن، والثانية ما يدور حول اليوم التالي من الإعمار وإدارة غزة، والثالثة هي حل الدولتين كونه السبيل الوحيد لأمن واستقرار الشرق الأوسط.
هكذا باتت إسرائيل تواجه العالم بأسره سياسيا، ولم يبقَ لها سوى المراهنة على إدارة ترامب، وهذا ما قاله كل من نتنياهو ودريمر وجدعون ساعر، لكن أميركا في أضعف حالاتها، وهي بدورها تتعرض للضغط، وقد باتت وحدها في مجلس الأمن، بعد انحياز بريطانيا للتوازن الدولي حول الملف الفلسطيني/ الإسرائيلي، وخير دليل هو التصويت الأخير، على مشروع قرار وقف إطلاق النار بغزة، حين صوت 14 عضوا مقابل «الفيتو» الأميركي، كما أن أميركا تواجه الصين وروسيا عالميا، وترامب نفسه اضطر إلى استجداء المال من دول الخليج ليواجه التفوق الاقتصادي الصيني، وهذا يعني قدرة دول الخليج  على التأثير عليه بشكل كبير جدا، ويبدو أن إدارة ترامب التي فشلت حتى بعد لقائه ستارمر قبل أيام في ثني رئيس الوزراء البريطاني عن إعلان اعترافه بدولة فلسطين، وبعد أن تجاوز ماركو روبيو حد خرق اتفاقية المقر، بعدم منحه تأشيرة الدخول للرئيس عابس لإلقاء كلمته التي اعتاد أن يلقيها في الجمعية العامة سنويا، إدارة ترامب وجدت نفسها مضطرة إلى ترتيب قمة أميركية عربية في نيويورك.
وإذا كان نتنياهو يعول على ما سيمنحه إياه ترامب من دعم للرد على الاعترافات الغربية، وعلى مؤتمر نيويورك بعد عودته لإسرائيل، فإن ترامب لن يتخذ موقفا إلا بعد لقاء قادة مصر، السعودية، قطر، الأردن وتركيا في نيويورك.