لماذا لا يزال سؤال ما العمل مطروحًا ؟

حجم الخط

بقلم هاني المصري 

 

أنهى مركز مسارات مؤتمره السنوي التاسع “فلسطين ما بعد رؤية ترامب … ما العمل”، يوم أمس، بعد 16 ورشة وجلسة. وشارك فيه أكثر من ألف مشارك عبر الحضور المباشر وجاهيًا وعبر برنامج زووم، من خلال كتابة أوراق أو التعقيب عليها أو تقديم مداخلات أو ملاحظات أو اقتراحات مكتوبة.

وفي سياق التحضير للمؤتمر، أعدّ مركز مسارات تقريرًا شاملًا كانت مسودته الأولى جاهزة في بداية العام، حيث طرح للنقاش، وأجريت عليه تعديلات كثيرة، وسيتم إجراء تعديلات جديدة عليه في ضوء الملاحظات والآراء والاقتراحات التي قدمت خلال جلسات المؤتمر.

تضمن التقرير تصورًا متكاملًا حول الجواب عن سؤال المؤتمر، وقدّم ملامح رؤية شاملة تستند إلى الرواية والحقوق الطبيعية والتاريخية والقانونية، ووحدة القضية والأرض والشعب، ووحدة تمثيله ومؤسساته الوطنية الجامعة، وتحديد الأهداف البعيدة والقريبة، وإستراتيجية متعددة الأبعاد والأهداف والمجالات وأشكال العمل والميادين، مركزها التعويل على الشعب الفلسطيني وما يقدر عليه، دون تجاهل توظيف الفرص والإمكانيات المتاحة عربيًا وإقليميًا ودوليًا.

كما حدد التقرير ملامح خطة للتعامل مع مؤامرة ترامب نتنياهو ومخططات الضم والتوسع الاستعمارية الاستيطانية، ومع المنظمة والسلطة، وأشكال العمل والنضال، والانتخابات في الشرط الفلسطيني، والحامل الوطني. ويشار إلى أن مسودة التقرير وملخصًا عنه وفيديوهات الجلسات منشورة على صفحة المؤتمر السنوي على الموقع الإلكتروني لمركز مسارات.

دشنت أعمال المؤتمر بورشة، في الخامس عشر من تموز الماضي، بعنوان “القدس وفلسطين بين العام والخاص”، مرورًا بعقد ورشات حول دور فلسطينيي الخارج وأهمية تفعيله، وإسرائيل 2020: حسم الصراع على الضفة الغربية، ومستقبل قطاع غزة، والانتخابات في الشرط الفلسطيني، وزيف الرواية الصهيونية في رؤية ترامب، ومستقبل السلطة، إضافة إلى ثلاث جلسات بعنوان حوار مع مسؤول: الأولى مع صائب عريقات، والثانية مع حسام بدران، والثالثة مع أيمن عودة، حيث كانت هذه الجلسات كنوع من المساءلة والبحث في القضايا المحورية على أساس محاولة الإجابة عن أسئلة: أين نقف، وإلى أين نريد أن نصل، وكيف نصل إلى ما نريد، وأين أخطأنا، وأين أصبنا، وما العمل؟ وكل ذلك اعتمادًا على منهج يربط ويرى تفاعل الفكر مع الواقع، مع الإمساك بالقدرة على استشراف المستقبل، بحيث يكون الهدف دائمًا تغيير الواقع من خلال الاعتراف به والتعامل معه من دون خضوع واستسلام، ولا تطرف ومغامرة.

وتضمن المؤتمر كذلك عقد جلستين بمشاركة قادة من الجبهتين الشعبية والديمقراطية والجهاد الإسلامي وحزب الشعب والمبادرة، وجلسة شارك فيها أكاديميون، وذلك لتقديم إجابات عن سؤال ما العمل، إلى أن اختتم المؤتمر أعماله بجلستين قدم فيها مجموعة من الباحثين/ات والناشطين/ات الشباب رؤى للإجابة عن سؤال ما العمل للخروج من المأزق الفلسطيني.

كما شهد المؤتمر جلسة الافتتاح الرسمية بعنوان “المجتمع الدولي ورؤية ترامب” حيث تحدث فيها رئيس مجلس الإدارة لمركز مسارات، ومديره العام، ونائب ممثل الاتحاد الأوروبي، والسفير الصيني، وناصر القدوة .

تضمنت خارطة المشاركين في جلسات المؤتمر ممثلين من مختلف أماكن تجمعات الشعب الفلسطيني، ومن مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، حيث تراوح عدد المشاركين في كل جلسة من 50-100، وكان الحضور الأبرز في جلستي الشباب، إلى جانب مشاهدة عشرات الآلاف للجلسات عبر البث المباشر وبعد انتهاء الجلسات على منصات التواصل الاجتماعي، لدرجة وصلت أعداد مشاهدة إحدى الجلسات إلى 20 ألف مشاهدة من دون تمويل للمنشور.

وكانت ذروة المشاركة يوم افتتاح المؤتمر في الثاني والعشرين من آب/أغسطس، حيث شارك أكثر من 320 مشاركًا/ة، منهم 150 في فندق المتحف بغزة، و70 في قاعة الهلال الأحمر بالبيرة (ضمن الالتزام بالبروتوكول الصحي)، و110 عبر برنامج زووم.

ورغم ما تميزت به الأوراق والنقاشات من عمق متفاوت وغنى وتنوع في الآراء، وتناولها للكثير من القضايا المحورية، وتقديم اقتراحات عملية مثلت اجتهادات سعت للإجابة عن سؤال ما العمل، وما يعنيه ذلك من تقدم ملموس على طريق تحقيق الهدف المنشود؛ إلا أن السؤال لا يزال مطروحًا وبحاجة إلى المزيد من الحوار، وذلك للأسباب الآتية:

أولًا: إن سؤال “ما العمل” في ظل المأزق الشامل الذي تعاني منه الحركة الوطنية بمختلف أطرافها وأحزابها، والتحديات والمخاطر الخارجية والداخلية التي تهدد القضية والأرض والشعب بالتصفية والضم والمزيد من التمزق والشرذمة؛ لا يجيب عنه مؤتمر ينظمه مركز بحثي، ولكنه قضية وطنية ومسؤولية عامة، ولا بد أن ينخرط في الإجابة عنه مختلف قوى الشعب الفلسطيني وقطاعاته ومؤسساته ونخبه وكفاءاته، وأن يكون ذلك في إطار وطني عام ومنظم، وبمشاركة تمثيلية أوسع، من الفصائل والمستقلين والشباب والمرأة والشتات، ومن قوى ومجموعات جديدة، وخصوصًا أن القديم ينهار ويبدو عاجزًا عن التجديد والتغيير والإصلاح، والجديد لم يولد بعد، وسيولد من رحم القديم عبر الحفاظ على إنجازاته ونقاط القوة، وتجاوز الأخطاء والخطايا ونقاط الضعف والقصور.

ثانيًا: عكس المؤتمر الحالة العامة التي يعيشها الشعب الفلسطيني إلى حد كبير، إذ إن أبرز ما ميز الآراء والملاحظات التي دارت في المؤتمر التنوع، بل الخلاف الواسع، فكل يغني على ليلاه من دون بلورة رؤية واحدة وإستراتيجيات موحدة تجسد القواسم المشتركة، أي من دون إجماع أو تيار مركزي حاسم يحظى بتأييد أغلبية واضحة، حيث غلب على مداخلات عديدةالتبرير أو التبشير والدفاع عن النفس، وإلقاء المسؤولية على الآخرين من أعداء وخصوم، من دون تقديم بديل فاعل ومبادر ومتكامل.

وغرقت العديد من المداخلات والأوراق والآراء في التفاصيل والجزيئات والإجراءات والأدوات وأشكال العمل، على حساب الغوص عميقًا في البحث في المضمون والجذور والأسباب والحلول والقضايا الجوهرية والكلية. فلم يأخذ المشروع الوطني الجامع، وضرورة إحيائه وإعادة تعريفه، الاهتمام المركزي الذي يستحقه، مع أنه حجر الأساس الذي يبنى عليه البناء الوطني كله .

تتمثل نقطة البدء كما أعتقد في إحياء وإعادة تعريف المشروع الوطني الذي تعرض إلى التجويف بعد اتفاق أوسلو، وتقزيمه إلى دولة في الضفة وغزة، ثم إلى تشويهه عمليًا بعد الانقسام الأسود إلى سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال.

والنقطة الثانية التي لها الأولوية في ظل موازين القوى المختلة لصالح الاحتلال، وحالة الجزر التي نعيشها، هي أن أقصى ما يمكن تحقيقه في الوضع الراهن هو الحفاظ على القضية الفلسطينية حية، وعلى تواجد الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، وتوفير مقومات صموده، ومقاومته المثمرة التي تجمع بين كل أشكال النضال، مع التركيز على الأشكال الأكثر جدوى منها، والمنسجمة مع عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي، والحفاظ على ما تبقى من مكتسبات ونقاط قوة، وإحباط المخططات المعادية، وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة باعتبارها ضرورة وليس خيارًا، تمهيدًا للتقدم على طريق تحقيق الخيارات والأهداف الفلسطينية.

كما عكس المؤتمر الخلافات والتباين حول كل شيء تقريبًا، مثل الخلاف على ما نريد، وكيف نحققه، ولماذا وصلنا إلى الوضع الكارثي الذي نعيشه، وهل هو نتيجة عوامل خارجية أم داخلية أم الاثنتين معًا؟

لقد برز الخلاف حول البرنامج والأهداف والمطلوب فعله، والتعامل مع القيادات والقوى والأدوات، حيث كان الخلاف بين من ينفض اليد كليًا من النظام السياسي القائم ويرى ضرورة هدمه أو إسقاط القيادات، وبين من يبرر لها ويدافع عنها، وبين من ينقدها بعمق ويدعو إلى التغيير، مع الإشارة إلى أن أدوات التغيير لم تنضج بعد رغم ازدياد الحاجة إليها، ما يعني بأن انهيار الواقع من دون بديل قد يفتح طريق الفوضى والفراغ، القادر على ملئه الاحتلال، خصوصًا في ظل مساعيه لتغيير السلطة للمرة الرابعة لتناسب الواقع الجديد الذي أوجده الاستعمار الاستيطاني العنصري، بعد عشرات السنين التي استهدفت خلق أمر واقع وحقائق تجعل الحل الإسرائيلي أكثر هو الحل الوحيد المطروح، واللعبة الوحيدة بالمدينة.

في هذا السياق، برزت خلافات بين دعاة الدولة الواحدة (وهم أكثر من مدرسة ما بين دعاة تحرير فلسطين وإقامة الدولة الديمقراطية على أنقاض المشروع الاستعماري الاستيطاني، وبين دعاة دولة ثنائية القومية، أو دولة لكل مواطنيها، أو دولة بأنظمة متعددة، أو دولة يهودية عنصرية يتم النضال داخلها لتكون ذات حقوق متساوية، أو دولة تقوم على المصالحة التاريخية بين الحركة الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية … إلخ)، وما يسمى “حل الدولتين”، مع أن أيًا منهما ليس في متناول اليد، فضلًا عن وجود مقاربات مختلفة لتحقيق كل منهما:

فهناك من يطالب بالتمسك بأذيال التسوية والمفاوضات، مع المطالبة بكسر الرعاية الأميركية لها، وتوسيع إطار اللجنة الرباعية.

وهناك من يطالب بالكف عن محاولات إحياء التسوية التفاوضية التي قتلتها إسرائيل منذ زمن بعيد، وتريد دفنها بخطة الضم التي وضعتها وتنتظر الوقت المناسب لتنفيذها.

وهناك من لا يرى تناقضًا بين ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، بما في ذلك العمل لإنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة على حدود 67، وتحقيق المساواة الفردية والقومية لفلسطينيي الداخل، وحق العودة، والكفاح في نفس الوقت من أجل إقامة دولة واحدة ديمقراطية على أنقاض المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري، أي الاعتراف بأقصى ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة، من دون التخلي عن الأهداف الوطنية والإستراتيجية والرواية التاريخية، ومن دون القفز عما يجمع الفلسطينيين، والخصائص والأولويات الخاصة بكل تجمع.

كما برزت خلافات حول المنظمة، وهل يمكن إصلاحها وإعادة بنائها، أم أنها انتحرت في أوسلو وما بعده، ويجب التفكير بشكل جديد وخلاق للتعامل مع الواقع الجديد، وكذلك برزت خلافات حول السلطة، وهل المطلوب تركها لتنهار، أم حلها وتسليم مفاتيحها للاحتلال، أم الحفاظ عليها في وجه مخطط الاحتلال لتدميرها، أم تغييرها لتصبح أداة من أدوات البرنامج الوطني ومنظمة الحرير بعد إعادة بنائها، أم تحويلها إلى دولة؟

كما أثير الجدل والخلاف مجددًا حول الانتخابات، وهل الانتخابات للسلطة (رئاسية وتشريعية)، أم تشريعية فقط، أم للسلطة والمنظمة، أم للمجلس الوطني فقط، وهل تكون إلكترونية أم عبر الاقتراع المباشر؟ وهل هي المدخل والعصا السحرية القادرة على فتح كل أقفال المأزق الفلسطيني، أم أنها وسيلة وليست هدفًا ولا مدخلًا كونها أحد أشكال وأدوات الديمقراطية التي يجب رؤية مستلزماتها بشكل عام، وفي الشرط الفلسطيني بشكل خاص والسعي لتوفيرها، إلى جانب بروز خلاف على المقاومة، وهل المطلوب مقاومة مسلحة، أم شعبية تجمع كل أشكال النضال، أم سلمية؟