«اللاسامية» مفهوم ضبابي فقد معناه ويـجـب إعـادة الـنـظـر فـي اسـتـخـدامـه

حجم الخط

بقلم: عوفر اديرت


منذ ثلاثين سنة لا يستخدم المؤرخ الأميركي اليهودي، البروفيسور دافيد أنغل، وهو مؤرخ مختص في البحث في شؤون العالم اليهودي في العصر الحديث، كلمة "لاسامية"، في مقالاته أو في كتبه.
اختفت الكلمة من قاموسه المهني تماما حتى عندما يكتب عن الكارثة. وهكذا، في الوقت الذي انتشر فيه استخدام هذا المفهوم بصورة كبيرة في وسائل الإعلام وفي السياسة، ومؤخرا نشرت عدة تقارير ادعت زيادة اللاسامية في فترة "كورونا"، وبالضبط في كل ما يتعلق بالماضي، الذي بلا شك كان مشبعا بمظاهر اللاسامية أكثر من اليوم، ينجح انغل في الامتناع عن استخدام هذه الكلمة.
"بدلا من الحاجة إلى اللاسامية عودت نفسي على أخذ أوصاف مشهورة لحالات وشخصيات محددة"، كتب انغل، وهو بروفيسور في العلوم اليهودية في جامعة نيويورك. على سبيل المثال، القانون الذي يقيد عدد اليهود المسموح لهم بالقبول في الجامعة يصنفه في فئة "تشريع تمييزي ضد اليهود"؛ الفرية ينسبها لـ "صور خيالية عن اليهود". "هذا التقسيم لم يدفعني إلى الافتراض بأن هناك علاقة جوهرية بين الحالتين"، قال.
قرار انغل، من مواليد 1951، أمر مختلف عليه، ويهز مسلمات في أوساط عدد من نظرائه الأكاديميين. في المقابل، يرى آخرون في ذلك اختراقة شجاعة، ويأملون في أن تفتح أعين كثيرين آخرين. هذا الموضوع الحساس والمشحون والسياسي – إعادة فحص مفهوم اللاسامية – يوجد في مركز الكشف الجديد لصحيفة "تسيون" للمجتمع التاريخي الإسرائيلي (إصدار مركز سلمان شزار).
محررو العدد، غاي ميرون وسكوت أوري، قالا إنهما أرادا "إثارة حوار أكاديمي وفكري جديد ومجدد حول مفهوم اللاسامية، الاستخدامات المختلفة له، وتداعياته المختلفة".
في المقال الرئيس في المجلة قال انغل إن اللاسامية هي مفهوم اعتباطي، ضبابي ومعيب، يشير إلى عدد كبير جدا من الظواهر التاريخية والاجتماعية والسياسية من فترات وأماكن مختلفة، التي ليس بالضرورة يجب أن تكون مرتبطة مع بعضها.
هكذا، يقف ضد المقاربة السائدة في البحث، والتي تجد تعبيرا لها في مقالات وكتب وفي مؤتمرات أكاديمية.
وحسب هذه المقاربة فإنه يوجد للاسامية تاريخ طويل ومتواصل خاص بها، كنوع من الخط المتواصل من العهد القديم وحتى أيامنا.
الكارثة، بناء على ذلك، هي أيضا ذروة، وأيضا نتيجة للسامية التي سبقتها. ثمة افتراض أساسي آخر، ترسخ في البحث حتى الآن، يقول إن اللاسامية تختلف عن أنواع أخرى من العنصرية والكراهية الجماعية، وإنه يوجد لها عوامل وتفسيرات خاصة فقط بها.
شعر عدد من المؤرخين في السنوات الأخيرة بعدم الرضا للشعور بأن أبحاث اللاسامية ارتكزت في الأجيال الأخيرة على هذه الافتراضات الأساسية.
يعتقد هؤلاء الباحثون أن الأمر يشير إلى المحافظة والى الجمود البحثي، التي هي أمور غير صحية للبحث الأكاديمي.
يقترح انغل تحدي هذا الخطاب. هكذا، يدعو إلى إعادة فحص هل توجد علاقة بين ظواهر مثل العداء الذي أظهره المسيحيون لليهود في فترات سابقة؛ وطرد اليهود وسلب حقوقهم؛ افتراءات ضد يهود في العصور الوسطى؛ مقاطعة حوانيت اليهود في العهد الحديث؛ نسبة تأثير زائد على الاقتصاد العالمي لليهود؛ تقييد هجرة اليهود؛ قتل اليهود على أيدي النازيين ومساعديهم في الكارثة؛ تدنيس المقابر اليهودية وكذلك الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل وإنكار حقها في الوجود في أيامنا.
"هل هناك قاسم مشترك بين كل هذه الأمور؟"، تساءل انغل في سعيه لذبح إحدى الأبقار المقدسة في خطابنا المعاصر.
"إذا سمعت عن شخص لاسامي فهل يمكنني أن أحدد استنادا إلى هذا الوصف فقط ما هي مظاهر اللاسامية، من بين احتمالات كثيرة، التي سيظهرها بالفعل؟".

بين اللاسامية والعبودية
النقاش حول مفهوم "اللاسامية" هو فقط مثال على الانشغال الأكاديمي بصلاحية مفاهيم تاريخية مختلفة.
مؤرخون كثيرون تساءلوا، مثلا، هل يمكن الحديث عن العبودية كاسم شامل لظاهرة حدثت، سواء في العصر القديم أو في الولايات المتحدة ابتداء من القرن السابع عشر.؟
"حقيقة أن مفهوم معين مثل عبودية أو قومية أو غيتو تغيّر معناه أو يتواجد أيضا في خطاب غير بحثي، لا تلغي استخدامه، بل تتطلب من الباحث أن يوضح ماذا بالضبط يطرح المفهوم الذي يستخدمه في السياق المحدد الذي في إطاره احتاج إليه"، كتبت البروفيسور حافي درايفوس في مقال نشرته في العدد ذاته.
درايفوس، الخبيرة في كارثة يهود بولندا في جامعة تل أبيب و"يد واسم"، تطرح مقاربة لينة أكثر من موقف انغل.
"لا شك في أنه ليس كل مس باليهود هو لاسامية. ولكن أيضا لا صحة للادعاء بعدم وجود حدث واحد يستحق الدراسة في هذا الإطار المفاهيمي للاسامية"، كتبت، "في نهاية المطاف، التحدي الذي أمامنا كباحثين هو محاولة الوصف الكامل دون طمس أجزائه المختلفة والمتنوعة. بالضبط مثلما أن الطمس التام للفروق القائمة بين الأجزاء المختلفة يمس بفهمنا، أيضا يوجد ثمن للامتناع التام عن الانشغال بالعام".
وهي تحذر من أن الامتناع عن استخدام مجموعة مفاهيم أساسية مثل "لاسامية"، يمكن أن يقوض القدرة على مناقشة مفاهيم مهمة أخرى بعمق مثل الثقافة، الاشتراكية، الليبرالية. "فعليا، يمكن أن يسحب البساط من تحت تحليلات تاريخية ذات طبيعة مقارنة".
يعتقد انغل شيئاً مختلفاً. فقد كتب أنه تبين له أن جميع النقاشات في هذا الموضوع، التي تجري في الجامعات منذ مئة سنة تقريبا، لم تنجح في خلق أدوات فحص موثوقة يمكن أن نقرر بمساعدتها هل أشخاص أو أفعال معينة هي لاسامية أم لا. "علاوة على ذلك، لم يكن من الواضح لي ما هو المحتوى الدقيق الذي كان من المفترض أن يشير إليه تعبير لاسامي"، قال وأضاف: "رغم أنني تعمقت في الأدبيات المهنية المتشعبة التي تتفاخر بتوضيح اللاسامية، إلا أنني رجعت خالي الوفاض".

مسألة العامل المشترك
دخل مفهوم "اللاسامية" إلى حيز واسع من الاستخدام في ألمانيا في بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر.
في الأصل كان وصف لأشخاص ومجموعات طلبوا وضع حد لترتيبات مختلفة، منحت حسب رأيهم تأثيراً غير مناسب لليهود على الحياة الثقافية وعلى المجتمع والاقتصاد والسياسة في بلادهم، في خلفية ذلك، كما يقول انغل، كانت توجد أسباب مختلفة، دينية، عنصرية، سياسية واقتصادية، ولم يكن هناك "أرضية مفاهيمية محددة مشتركة".
منذ ذلك الحين وحتى الآن، اتسع هذا المفهوم جدا، وهو يشمل الآن تصريحات ونشاطات مختلفة عن بعضها، من قبل أشخاص غير يهود، تهدد اليهود على مر الأجيال في أماكن مختلفة. ولكن هل هناك حقا دافع واحد مشترك بين مثيري الشغب الذين هاجموا منازل ومتاجر اليهود في فرنسا خلال قضية درايفوس في نهاية القرن التاسع عشر وبين قتلة اليهود في بولندا بعد الكارثة وبين المواطنين الأميركيين الذين أجابوا في استطلاع في العام 1955 بأنهم "سيعارضون بشدة أي محاولة من قبل يهودي لشراء منزل في شارعهم"؟.
يعتقد انغل أنه يجب الحذر عندما نريد تصنيف أحداث مختلفة جدا ضمن فئة واحدة، كل حدث كهذا، حسب قوله، يستحق تحليلا منفصلا بحد ذاته.
"لا يوجد سبب للحفاظ على اللاسامية كوصف لفئة معينة"، أضاف. "لا يوجد أي سبب يمنع المؤرخين من فصل وإعادة تقسيم المعطيات التي يسميها الخطاب الدارج باللاسامية إلى فئات موضوعية، كل واحدة طبقا للأجندة البحثية لها".

ماذا عن الكارثة؟
أثارت فرضية أنغل - كما هو متوقع - نقاشا كبيرا في أوساط المؤرخين الرائدين في بحث تاريخ الشعب اليهودي في فترات مختلفة. وإذا تنازلنا عن اللاسامية، يخاف عدد منهم أن يأتي مؤرخون ويقترحون أيضا التنازل عن مفهوم "الكارثة". ولكن فعليا نحن غير بعيدين عن ذلك. الكارثة هي في الحقيقة مفهوم أكثر تقليصا من الناحية الزمنية والجغرافية من اللاسامية.
ولكن بالضبط لهذا السبب يمكنها أن تستخدم كحالة فحص للمسألة الأساسية بشأن إمكانية أن نجمع معا ظواهر مختلفة.
وقال بعض المؤرخين إنه يوجد لهذا المفهوم شحنة إشكالية تمس بأبحاث إبادة الشعوب التي وقعت في أماكن وأزمان مختلفة.
تصف درايفوس في مقالها كيف أن أبحاثا أخرى تدعي أن الكارثة ليست سوى "سلسلة أحداث... ضحاياها كانوا أيضا – ليس فقط – من اليهود الذين قُتلوا للعديد من الأسباب المحلية".
طبقا لذلك تطرح درايفوس تساؤلاً حول كيف أنه بالإمكان مقارنة الواقع في 1933 مع الواقع في 1943؟ وهل هناك أمر مشترك بين اليهودي الذي حارب في التنظيمات السرية السلوفاكية واليهودية من بولندا التي أرسلت إلى معسكر عمل ألماني؟.
"التنوع الكبير للتجارب الإنسانية في أيام الكارثة يثير أسئلة صعبة بالنسبة للثمن الذي يدفعه البحث الذي يضعها تحت فئة مفاهيمية واحدة اسمها الكارثة"، كتبت درايفوس في أعقاب انغل. "لا شك في أن تنوعاً كبيراً جداً من الأحداث والتفاعلات الإنسانية حدث في الكارثة: اليهود ضحايا الكارثة لم يكونوا ذوي هوية مشتركة بأي شكل من الأشكال. هم لم يتحدثوا اللغة ذاتها وطرقهم لم تكن تتقاطع قبل الكارثة. حلفاؤهم وأعداؤهم كانوا أيضا مختلفين الواحد عن الآخر، وكذلك أيضا العامل المباشر لاضطهادهم".
ولكن درايفوس توصلت إلى استنتاج يختلف عن استنتاج انغل. "لقتل يهود أوروبا في فترة الكارثة كانت هناك أسباب محددة ومتنوعة. وكان فيها شيء مشترك. والتجاهل المتعمد للتشابه في مصير ذلك التنوع الإنساني المعرف بمساعدة كلمة "كارثة"، "يخلق تحديدا مصطنعا للأحداث يمكن أن يتسبب بتشويه جوهري في فهمنا للأحداث والفترة"، كتبت. هذا الأمر بالنسبة لها صحيح أيضا بخصوص استخدام "اللاسامية".

 عن "هآرتس"