صورتنا بعد سنوات

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

لعقود طويلة، ظل المجتمع الأميركي يمارس التمييز العنصري ضد السود، فكان ممنوعاً عليهم فتح حساب في البنك، أو أخذ قرض، أو دخول الجامعة، أو ارتياد المطاعم، والمسابح، والفنادق، وحتى المؤسسات الحكومية. في أي بناية عامة يكون الباب الرئيسي للبيض، أما السود فعليهم الدخول من باب خلفي، عليهم الجلوس في المقاعد الخلفية في الباصات، مع أولوية الجلوس للبيض، وهناك دوماً حنفية مياه مخصصة للسود، كما لهم كنائسهم الخاصة ومدارسهم الخاصة وأحياؤهم الخاصة.
كل تلك الممارسات العنصرية البغيضة كانت مقبولة وعادية من وجهة نظر المواطنين البيض، يمارسونها دون أي شعور بالذنب أو الخجل أو تأنيب للضمير. ولما ألغي التمييز العنصري في نهاية الستينيات، وأعلنت المساواة التامة بين جميع المواطنين، اعترض كثيرون، وحاربوا القانون الجديد بشدة، إلى أن بدأ المجتمع يتعافى تدريجياً من مخلفات الماضي البغيض وثقافته العنصرية، وصارت أي ممارسة عنصرية مدانة شعبياً، ويعاقب عليها القانون. وهذا لا يعني أن المجتمع تعافى كلياً، لكنه على الأقل انتقل بثقافته وممارساته نقلة نوعية من القبول بالعنصرية إلى رفضها وإدانتها والخجل منها.
تعالوا نجري مقاربة بين المجتمع الأميركي ومجتمعاتنا العربية، ولتكن مقارنة بين العنصرية وقتل النساء. وكلتاهما جريمة ضد الإنسانية، بل إن القتل أشد بشاعة وفظاعة.
في مجتمعاتنا العربية (والشرقية عموماً) تُعامَل المرأة بمعايير عنصرية، حيث يُنظر إليها نظرة دونية؛ فهي عورة صوتاً وصورة، وهي مصدر للفتنة والغواية، وهي رمز للخطيئة، وغير جديرة بالثقة إذا أعطيت قدراً ولو ضئيلاً من الحرية، وهي كائن مدنس (في فترتَي الدورة الشهرية والنفاس) وهي ناقصة عقل ودين، وهي أقل شأناً وأهمية من الرجل، بل هي تابعة له، ومخصصة لخدمته، مخلوقة للبيت، تحديداً للمطبخ ولفراش الزوجية. هذه مكانة المرأة في وعي الرجل الشرقي، وهكذا ينظر إليها، فهو يستغرب إذا رأى امرأة ذكية، أو شجاعة، أو تتحمل مسؤولية، سيصفها على الفور «أخت الرجال»، فكل الصفات الإيجابية والحسنة منسوبة حصراً للرجل، وكل الصفات السلبية منسوبة حصراً للمرأة، المرأة يُضرب بها المثل لوصف المهانة والجبن والضعف.
تطبيقات تلك النظرة الدونية العنصرية تجاه المرأة تبدأ من لحظة ولادتها، وتظل مسلطة عليها حتى مماتها. ولادتها مقترنة بالشؤم والنقص، خلافاً لميلاد الذكر، فحتى لو حظي الأب بعشر بنات حاصلات على جائزة نوبل سندعو له بأن يعوضه الله بالذكَر.
بعد ذلك ستُحرم من طفولتها، ستُمنع من اللعب، ومن الخروج للشارع، وسيُفرض عليها زي محدد، وستمضي وقتها في المطبخ، وستتعلم مبكراً خدمة إخوتها الذكور، تمهيداً لخدمة الذكر الأهم في حياتها (زوجها وسيدها وبعلها). وبالمناسبة بعل هو اسم الإله الأكبر زمن الكنعانيين، والزوج هو الإله الأصغر، وهذه الثقافة يبدو أنها سائدة منذ تلك العصور الغابرة، أي بعد انتهاء عصر الأمومة، وسيادة المجتمع البطريركي.
سيتم تزويجها مبكراً، وإذا كانت محظوظة ستنهي تعليمها، وحتى عقود قريبة خلت كانت الفتيات محرومات من المدرسة، وقبلها كنَّ محرومات من تلقي العلاج، لأن الأطباء ذكور، فإذا مرضت الأنثى إما أن تشفى من تلقاء نفسها، أو تموت. ولن نخوض أكثر في قائمة الممنوعات التي كانت مفروضة على المرأة في أزمنة سابقة، فلحسن الحظ تطور المجتمع، وانتهت الكثير من مظاهر التمييز، وصار مقبولاً أن تتعلم وتتلقى العلاج وأن تسافر وتشتغل.
لنركز على واقعنا اليوم.. فرغم كل ما نالته المرأة من حقوق، ومن تحسن في أوضاعها سواء بالقانون أو من نظرة المجتمع وثقافته، إلا أن بعض ترسبات الماضي ما زالت قابعة في عقول الكثيرين، وما زال المجتمع يخبئ في عقله الباطن تلك الصورة النمطية السلبية للمرأة، وما زال يمارس أشكالاً معينة من العنصرية الجندرية. وهذا نلمسه في التربية البيتية، وفي فرص الحياة المتاحة أمام أي أنثى، في التعليم الجامعي، والتوظيف، والرواتب، والترقيات، وتبوؤها مواقع قيادية.. والأهم والأخطر في العنف الممارس ضدها.
بعد سنوات (أرجو ألا تكون بعيدة) سيذكر التاريخ كيف كانت مجتمعاتنا تتعامل مع المرأة، كما ذكر لنا كيف تعامل المجتمع الأميركي مع السود. سيذكر التاريخ أن مجتمعاتنا كانت تضطهد النساء، والمفارقة الغريبة والمؤسفة أن بعض النساء لم تكن تشعر بحجم الظلم المسلط عليهن، كن أسيرات الأيديولوجيا والحزب والقبيلة والتقاليد والخوف. كن يعتقدن أنهن نلن حقوقهن وحريتهن، بينما الواقع يقول: إنهن كنَّ محرومات من إنسانيتهن.. كن مستلبات فكرياً وإنسانياً.. ويدافعن بضراوة عن أسيادهن.
سيذكر التاريخ أن فئات معينة من مجتمعاتنا كانت تتقبل كل أشكال الظلم المسلطة على النساء: حرمانهن من الميراث، حبسهن في البيوت، حرمانهن من أبسط حقوقهن، ممارسة العنف ضدهن صبح مساء. وسيكتب في صفحاته المظلمة أنه كان يجري قتل النساء بكل بساطة، ومن يقتل امرأة ينال عقوبة مخففة، بل يجري تكريمه مجتمعياً والاحتفاء برجولته، إذا ذبح الأخ شقيقته نقول عنه «غسل عار العائلة»، وإذا قتل الأب ابنته لا يُسجن لأنه «ولي الدم».. سنسخر كثيراً من هذا المصطلحات، وسنعرف كم كنا مجرمين وقساة وبلا إنسانية.
إذا كنت تشاهد فيلماً سينمائياً عن فترة العبودية، وتستفزك مشاهد التعذيب الوحشية، ويستفزك أكثر كيف كان المجتمع لا مبالياً، بل موافقاً بكل أريحية على تلك الهمجية والقسوة، تخيل أحفادك وهم يشاهدون فيلماً عن حاضرنا، وعن جرائمنا بحق النساء، وكيف كنا لا مبالين، بل كنا نساهم في نشر الإشاعة، وتشجيع المعتدين، وترديد السؤال الغبي «أبصر شو عملت»، وبدلاً من تجريم المتحرش والمغتصب، نلوم الضحية. كنا نسمع صرخات المعنفات من خلف الشبابيك ولا نحرك ساكناً، نسمع قصصاً عن تعذيب النساء والأطفال وأكثر ما نفعله هو التأثر اللحظي، وبعضنا كان يعتقد أن هذا أمر عادي، لأن النساء والأطفال من ممتلكات الرجل الخاصة، ويحق له «تأديبهم» بطريقته الخاصة! سيذكر التاريخ أن مثقفين وشيوخ عشائر ونواباً وقضاة ودعاة كانوا يعترضون على سن أي قانون لحماية النساء من العنف، ويصرون على الدفاع عن القتلة باعتبارهم يدافعون عن «شرف العائلة»، و»شرف المجتمع»!! هؤلاء يجب توثيق أسمائهم في قوائم العار.
تخيل كم سيشعر أحفادنا بالخجل منا.
أرجو ألا يرث أحفادنا تخلفنا.