أيديولوجيا سوق العقارات..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

توقفنا، قبل أسبوع، عند مقارنة لا تتسم بالنزاهة، وتمثل المرافعة الرئيسة للشهابي، بين السعودية، وبلدان عربية نفطية كالعراق ليبيا والجزائر، وقد استنتج منها، بأثر رجعي، أن الكفة تميل لصالح الأولى: سرّها ليس في نفطها بل في نظامها، فثروة النفط لدى آخرين، أيضاً، ولكنهم أهدروها، و»بهدلوا» أنفسهم.
على أي حال، لا غنى عن النزاهة في بناء وتوليف الأفكار، إذا أردنا لها أن تكون موضوعية، وإلا وُصمت بالأيديولوجية، وصُنّفت في باب الدعاية، وحُكم عليها بالتهالك. وهذا ما يُفترض أن يتعلّمه الباحثون في علوم الإنسان والمجتمع، وأن يبرهنوا عليه، للحصول على شهادات واعتراف بالجدارة في الأكاديميا (في الديمقراطيات الغربية، بشكل خاص، أما في الأنظمة الشمولية فلا فائدة من المقارنة).
ومنذ هيغل، والهيغلية، أصبحنا نملك اسماً، وبوصلة، للجدل في عملية التوليف بين فرضية أولى، وفرضية ثانية مضادة (thesis, antithesis, synthesis) في بلورة وبناء فكرة جدلية مركّبة. هذا لا يعني، بالضرورة، أن التوليف بين فرضيات، أو أطروحات، عن طريق خفّة اليد، والرطانة المُفرطة في غموضها (للتغطية على ضحالتها)، لا يحدث بصفة تكاد تكون روتينية، ولكن في مجرّد حدوثه ما يسم الأفكار نفسها بالابتذال، والهشاشة، إلى حد يستحيل معه الدفاع عنها، وفيه ما يُسوّغ وصمها بالفقر الأخلاقي والمعرفي، في آن.
ويصدق هذا، بالتأكيد، على أطروحة الشهابي. فثمة ما تم التغاضي عنه (بطريقة مفيدة أيديولوجيا، ومكشوفة أخلاقيا) في معرض المقارنة بين طرفي المعادلة الشهابية، فالطرف الأوّل، أي السعودية، لم يكن جزءاً من عملية التوسّع الكولونيالي الغربي، لفقره، وعزلته، وهامشيته، في موجات التوسع الكبرى في القرن التاسع عشر، وما أعقب انهيار الإمبراطورية العثمانية، واقتسام أملاكها، في العقود الأولى للقرن العشرين.
وقد كانت لكل ما تقدّم تداعيات بعيدة المدى على نشوء الظاهرة القومية، ونزعتها الاستقلالية المعادية للكولونيالية، وعلى نموذج وعملية بناء الدولة القومية الحديثة (nation/state) في بلدان الطرف الثاني للمعادلة. ولهذا كله، (وهذا يصدق، أيضاً، على إيران، ومصر، وكل المشرق العربي وشمال أفريقيا)، دلالة الانخراط في عالم صنعته الكولونيالية (ليصبح تاريخه تاريخها، بلغة إدوارد سعيد) ومع ما لهذا كله من آثار سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، بعيدة المدى.
وهذا ما لم تعرفه السعودية، فالوهابية لم تكن حركة قومية معادية للكولونيالية، ولا حركة إصلاحية، بالمعنى اللاهوتي، بالمقارنة مع حركة الإصلاح البروتستانتي. وقد خفتت في العقود الأخيرة أصداء الكلام الدعائي القديم عن تدمير الأضرحة، وشواهد القبور، ضمن أمور أخرى، كدليل على نزعة إصلاحية مزعومة. وأصبح، في الإمكان، تفنيد روايات كهذه على خلفية اكتشاف وتعميم مفاهيم، وأدوات تحليلية، جديدة كالدين الشعبي ومركزيته في حياة المجتمعات التقليدية، وعدم إمكانية فرض مفاهيم فقهية من نوع «الشرك»، مثلاً، على مناهج العلوم الاجتماعية، أو حتى تصديق أن تقليد الغزوات القبلية كان لتصويب وتسوية خلافات بشأن معتقدات فقهية.
على أي حال، مع هذا كله، في الذهن، وعلى أهميته، إلا أنه لا يمثل الجانب الأكثر إشكالية، أو ما يستدعي، ويُحرّض على لفت الأنظار، في مرافعة الشهابي. فالجانب الأكثر إشكالية يتمثل في ما يمكن وصفه بـ»شجاعة المحو»: محو الخصوصيات التاريخية من ناحية، ومحو الفرق بين القاعدة والاستثناء من ناحية ثانية. فخصوصية النظام لم تنجم عن «عبقرية» من نوع ما، بل كانت محصلة موضوعية، في المقام الأوّل، لتفاعل مُحددات تاريخية وجغرافية. هذا في أفضل الأحوال، وأكثرها حيادية، ودون الدخول في تفاصيل سياسية كثيرة، والكلام عن بريطانيا، وأميركا، والنفط. ومحو الفرق بين نموذج الدولة القومية الحديثة السائد في أربعة أركان الأرض (بصرف النظر عما إذا كان نظامها ملكياً أو جمهورياً، وإذا كان شمولياً أو ديمقراطياً) والنموذج الفريد، والمُنافي في الواقع، لمعنى ومبنى الدولة القومية، للدولة السعودية، وبقية دول الخليج.
كان التناقض بين نموذج الدولة القومية الحديثة، وخصوصية نموذج الدولة السعودية الفريد، والوحيد، على مستوى العالم، جزءاً من المسكوت عنه في قاموس وخطاب السياسة في العالم العربي، باستثناء الفترة الناصرية، والطفرة اليسارية الفلسطينية والعربية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وفي بدايات الجمهوريات السورية والعراقية قبل تحوّلها إلى دكتاتوريات سافرة، ودخولها في طور إنشاء سلالات حاكمة.
ومنذ نهاية الحرب الباردة، وصعود الإسلام السياسي، وتفكك وتفكيك قوى الحواضر المركزية الكبرى والوسيطة في العالم العربي، ترافق استشراء النزعات اليمينية والمحافظة شيئاً فشيئاً، مع «عودة المكبوت»، واستعادة «المسكوت عنه»، وقد تجلى الأمر أحياناً بطريقة دموية، ومأساوية تماماً، في نموذج الدولة الداعشية على أنقاض الدولتين السورية والعراقية. ولكنه تجلى ويتجلى بطريقة تكاد تكون لا مرئية، وفي حقل الأفكار على نحو خاص، ليكون تتويجاً لانقلاب كامل وشامل على فكرة الدولة القومية الحديثة، والمواطنة، والعداء للكولونيالية، وقرابة قرن من الحداثة والتنوير العربيين.
وبهذا المعنى، تندرج مرافعة الشهابي بوصفها «شغلاً» في الحقل الأيديولوجي على بلورة رواية جديدة تفسّر وتبرر نموذج الدولة السعودية والخليجية المُستحدثة، حتى بأثر رجعي، أيضاً، وبما يتناسب وما طرأ على موازين القوى في الإقليم والعالم من تغيير، وما أصبح ممكناً بعد انهيار الحواضر العربية، وصعود القوّة الإسرائيلية وراء قناع «السلام الإبراهيمي»، الذي صاغه وفرضه تاجر للعقارات. السلام الذي يصعب، في الواقع، تشخيص رواية أصحابه عنه إلا بوصفها «أيديولوجيا لسوق العقارات». والمهم أن الشغل على عودة المكبوت يحدث في الجامعات الغربية، كمان وكمان. فاصل ونواصل.