هل ستُحقق الألفية الثالثة، ما قالته آلهةُ اليونانيين القدماء، آلهةُ السخرية، موموس، عندما احتجَّتْ على خلق الإنسان، ورأت في خلقه ثغرةً، كان يجب إكمالُها!! فقالت:
" كان واجبا أن يكون للإنسان نافذةٌ في صدرِهِ، نُطلُّ منها على قلبه"
هل استطاعتْ الألفية الثالثة أن تحقق نبوءة آلهة اليونان؛ أن تعيد صياغة الإنسان من جديد، وتُفصحُ عن مكنوناته، بوسيلة سهلة، وهي التواصُل الاجتماعي؟
وهل أصبحت صفحات التواصل الرقمية نماذج على نوافذ الصدور، وخزائن القلوب؟!!
لم يعد صعبا على أي فردٍ يُجيد استخدام التكنلوجيا الرقمية، أن يعرف بنسبة عالية، تصل إلى أكثر من سبعين في المائة من الدقة، مكنونات أي شخصٍ منتمٍ إلى العائلات الرقمية؛ القبيلة الفيسبوكية، والعائلة التويترية، والحمولة اللنكدينية، والأسرة التوية، وغيرها، وغيرها!
مَن يتصفح صفحات التواصل الرقمية، فإنه سيقرأ الشخصية المنتمية قراءة جيدة، ويعرف خصائصها، وصفاتها، فلا حاجة إذن لعهد (السي في) الورقية، أو ملخصات الشخصية المهنية، ولا حاجة لأي جهاز مخابرات في العالم، أن يبحثَ عن الشخصيات المراد متابعتها، ولا حاجة لإعلانات الشركات والمؤسسات، في الجرائد والمجلات، التي تبحث عن موظفين، فلا حاجة لها أن تدرس الأوراق والشهادات العلمية ، والخبرات الوظيفية من خلال الأوراق، أو المخبرين، يكفي فقط أن يكون للفرد صفحةٌ في إحدى الوسائط الرقمية، فهي بالتأكيد وثيقة صادقة عن شخصيته!
ومن أبرز أنماط الشخصيات الشائعة في صفحات التواصل، (شخصيات المرايا) ، وهم أكثر الشخصيات شيوعا، هم المغرمون بالإعلان عن ذواتهم، وتسويق أخبارهم، وتجميلها أمام الآخرين، وهؤلاء لا يحتاجون إلَّا إلى كاميرا، وجهاز كمبيوتر، يصورهم، أينما حلوا، وارتحلوا، ويمكن قياس هذه الشخصيات بعدد الصور المحفوظة في مواقع التواصل!
ومِن أنماط الشخصيات، (شخصيات العوالق)الباحثون عن المشهورين في كل مجالات الحياة، هؤلاء يحاولون الاقتراب من هذه الشخصيات، لهدفٍ ما!، إما لقرصهم بالنقد اللاذع، واستفزازهم بالكلمات، للفتِ النظر إليهم، وإثبات وجودهم، وإما بمدحهم، في كل الأحوال بما يقولون، بغض النظر عن قيمة أقوالهم، استجداء لإطرائهم.
وِمن أكثر أنماط الشخصيات انتشارا أيضا، (المنتقمون) وهم ممن يعانون من ضوائق نفسية متعددة، فإنَّ هؤلاء وجدوا أن الشبكة الإلكترونية تُتيح لهم فرصة التنفيس عن مجموع ضوائقهم النفسية، فهم يستعملون الشبكات الرقمية للانتقام مِمَن يخالفونهم الرأي، أو ممن ينازعونهم المناصب والألقاب، وهؤلاء الانتقاميون، يعمدون ليس للتحذير والتخويف بإلغاء الصداقات فقط، بل إنَّ البارعين منهم في فنون البرمجة يخترعون فايروسات تخريبية، تُدمر مواقع الخصوم!
أما الفوائد التي تجنيها الدول والشركات المالكة لمواقع التواصل الرقمية، فهو الأهم مِن كلِّ ما سبق، فالدول المالكة لمواقع التواصل تستطيع من خلال برامجها، معرفة اتجاهات الجماهير، اهتماماتهم السياسية، ورغباتهم الاستهلاكية، ومشاريعهم المستقبلية.
وهذه الدول لم تكتفِ بهذه الثروة المعرفية، بل إنها انتقلت اليوم إلى التأثير في مسار مستهلكي الشبكات، وليس من قبيل المبالغة أن نقول: إن الدول المالكة للشبكات، تُوجِّهُ مسار الأحداث بكاملها، عبر تلك الوسائط، وترسم مستقبلها، وفق معطيات الشبكات، وتحدد أساليبَها، وفق استخلاصات مهندسي المتابعة، ومبرمجي الأنظمة، والبرامج التجسسية، والاستقصائية!
وليس من المبالغة القولُ: إن الشيكات الرقمية، هي الكتائب والألوية العسكرية، والفرق والفيالق الهجومية الحديثة في ألفيتنا الثالثة!
أما الدول التي تعيش خارج التغطية، الدول والشعوب، التي ما تزال تحيا عوالمها السالفة، وتعلم أطفالها الماضي، لا الحاضر، ولا المستقبل، الدول المستهلكة للتكنلوجيا الرقمية المجانية، ما تزال يستخدم مواطنوها شبكاتِ التواصل قلائدَ، وتيجانا، ونياشين، وألعابا مسلية، يقضون بها جُلَّ الأوقات، والضحية دائما، هي أوقاتُ العمل المنتج، إن بَقِيَ لهم وقتٌ مُنتج، ويعيشون انفصاما مع محيطهم، حين تتحول شبكات التواصل الرقمية، إلى مسكرات، ومستحضرات للإدمان، تجعلهم يعيشون في أوهامهم؛ ويظنون زيفا، أنهم مساهمون في المنافسة على المستقبل!